أغاني الثورة تعيد اكتشاف معنى أن تكون سورياً

11 يناير 2025
في دمشق، 31 ديسمبر 2024 (علي حاج سليمان/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الثورة السورية مراحل حاسمة، حيث كانت الأغاني والهتافات الثورية وسيلة قوية لتوحيد الشعب ومقاومته للنظام، رغم القمع العنيف.
- حاول النظام السوري قمع الثورة بطرق متعددة، لكن الأغاني والهتافات ساهمت في توحيد الشعب وتجاوز الخوف، وانتشرت الثورة في جميع أنحاء البلاد.
- لعبت الأغاني الثورية دوراً في إعادة تعريف الهوية السورية، وكشفت المعنى الروحي لكلمة "سوري"، مما أعاد للشعب شعور الانتماء الحقيقي بعيداً عن شعارات النظام.

على مدى الأربعة عشر عاماً الماضية، مرّت الثورة السورية بكثير من المراحل المختلفة، وشهدت منعطفات ومحطات فاصلة، وثّقتها أصوات الثوار بالأناشيد والهتافات. واليوم، بعد سقوط النظام السوري، حين نرى حجم الدمار الذي ترك فيه البلاد إلى أبنائها، ندرك أن مقابل كل هتاف أمطِر المتظاهرون بما لا يحصى من الرصاص والقذائف، من البراميل والصواريخ، فكل ثقب في جدار، وكل سقف مُهدّم، كان تمثيلاً لما تفعله الأناشيد والأغاني في كيان الطاغية.

كانت أغاني حناجر الثوار أمضى من السلاح في أيديهم، لا سيما أن النظام السوري أصرّ على جر التظاهرات السلمية إلى ملعب السلاح، ملعبه. استمات النظام السوري لاستئصال أي وسيلة تُوحِّد الجسد المعارض له والرافض لوجوده، فمارس شتى أنواع الترهيب والحصار، وقطَع الطرقات ونشَر آلاف الحواجز على ما تبقى منها، تلك الحواجز التي كانت مصفاة لاعتقال الناس وتغييبهم في القبور والمعتقلات، فضلاً عن قصف المدن وتفجير المفخخات، وافتعال المجازر بساحات التظاهر، فكلّما كان تأثير الساحات أكبر وانتشار هتافاتها أوسع، ازدادت همجية فعل النظام فيها، وتصميمه على اجتثاثها من الذاكرة القادمة. كل ذلك فعله النظام ليُبقي على مسافات دأب على تحصينها قرابة الخمسين عاماً، بنشر الفتن بين فئات النسيج السوري المتنوع، وصناعة الشروخ، والعمل على توسيع مساحاتها، وتعبئة الشعب بقوالب موالية، وإبعادها عن العمل الوطني، وقطع دابر الأرجل من ساحات العمل السياسي.

على ضوء هذا الواقع، تنوّعت الخطابات التي حملتها الأغنية في الثورة السورية، وتعدّدت أيضاً الأغراض التي أدّتها، فحملت شعارات الثوار وتطلعاتهم، وكانت هي الحزام الخفي الذي يلف الجموع، ويوحد قفزاتهم، ودبيب أقدامهم، في إيقاع مهول كان كل ما يملكه الثوار أمام الموت المتربص بهم في بنادق جنود النظام المتمترسة على بعد أمتار قليلة، منتظراً أن يسود بصمته على الأحياء والأشياء. كان الثوار يحتشدون متجاوزين كل الخوف المطلوب زراعته في أفئدتهم. يقول أحد المتظاهرين: "عندما كنت أستمع إلى الصفوف التي تتقدمني تهتف 'سوريا حرة، حرة، بشار اطلع برا'، كنت أحس بما يمسك لساني عن الانطلاق والصراخ وكأنه يذوب بحرارة، وبعدها لا أستطيع التوقف عن الانفجار. كنا نرجع إلى التظاهرات حتى بعد أن يُقتل ويُصاب العشرات منا، فتلك لحظات لا توصف من الخوف المقتول، وكأننا كنا نعود لنثأر من خوفنا، أو من موتنا الذي كان يبعد عنا أمتاراً".

انتزعت الأغاني لجام الخوف القابع على حناجر الناس وقلوبهم، حتى أولئك ممن لم يشاركوا بفعل التظاهر، دخلت الهتافات والأغاني الثورية بيوتهم، واقتحمت مساحاتهم الخاصة، وصاروا يرددون: "متنا، بإيد إخوتنا، باسم أمن الوطن"، بالرغم من أن الحيطان لها آذان.

على خلاف معظم الانتفاضات العربية، لم تقتصر الاعتصامات والتظاهرات في سورية على العاصمة والمدن الكبرى، بل انتشر لهيب الثورة في أغلب المدن السورية، وكان لمدن وقرى ريفية أثر كبير في وجدان الشارع السوري، إذ تأتي خصوصية خطاب كل من هذه المدن غير المركزية كمرآة للخصوصية الإثنية والجغرافية والاجتماعية لها، كما أن عنف النظام مع الساحات العامة، قاد الثوار للدخول إلى الحارات والأزقة التي يصعب وصول آليات النظام إليها، وهكذا تقاذفت الحارات والمدن على مساحة سورية الملتهبة، الأناشيد والهتافات، وتغنّت كل منها بصمود الأخرى، فكانت حمص تنشد: "يا درعا، حنّا معاك للموت"، ودرعا تنشد: "يا أهالي الشام، يا أهالي الشام، نحن بدرعا أسقطنا النظام"، وداعل تبعث رسالة المواساة والتعزية إلى مخيم اليرموك الفلسطيني بالشهيد أحمد كوسا.

أفرزت الحالة السورية خطاباً ثورياً على أكثر من مستوى، فحاولت أن تتناسب مع ضراوة النظام الجاثم على أنفاس الشعب، وجذور فساده الضاربة عميقاً في تفاصيل حياتهم، ومع منظومة الرعب الأمنية المتغلغلة في هواء المدن، فتنبأت في وقت مبكر من عمر الثورة، بما لن يتردد النظام عن فعله، وقد تحققت نبوءتها مع الأيام: "بدنا نعبي الزنزانات، بدنا نملي المعتقلات، وبدنا نفضي الروسيات كرمال الأمة الأسدية (...) لعيونك نحن يا بشار، على صباطك نحنا غبار، لعيونك بنهد الدار، أنت الديمقراطية" لفرقة أبطال موسكو الأقوياء.

وتفاعلت بعض الأغاني مع الحراك الاجتماعي الثوري، مثل إضراب الكرامة في ديسمبر/كانون الأول 2011، الذي دعت إليه منظمة الحراك السلمي السوري، للتأكيد على الحراك السلمي للثورة السورية كأغنية "محل زغير ومسكر"، لفرقة نص تفاحة: "بالإضراب وبالعصيان، والصرخة بوجه الطغيان، ثورتنا ثورة إنسان الصوت بوجه الروسية"، وأغنية "سكّر محلك يا وطن"، لفرقة إخوة الحرية.

أما عن النقطة الأهم التي أفرزتها الثورة السورية، ولعبت الأغنية دور البطولة فيها، فكانت المساهمة في إعادة الكشف عن المعنى الروحي لكلمة سوري، فعلى مدى حكم الأسدين للبلاد، اشتُغل على تفريغ هذه المفردة من أي معنى، وذلك باتباع منهجية مدروسة، تُطبق على الشعب السوري بمختلف فئاته العمرية، إذ يُزج الأطفال في المدارس حتى سن الـ12 في منظمة طلائع البعث، فيغنون أناشيد خاصة بطلائع البعث وتمجيد الأسد، ومن ثم منظمة اتحاد شبيبة الثورة ولها أيضاً، ومن ثم يُنسَّب كل هؤلاء الطلاب لحزب البعث العربي الاشتراكي من دون حتى سؤالهم، ويخضعون خلال كل تلك السنوات إلى غسل الأدمغة، عبر كتب ودورات ومعسكرات، يردّدون فيها أناشيد خاصة لتخليد أمجاد الأسد، والتأكيد على مبايعته إلى الأبد. يُضاف إلى ذلك كتاب التربية القومية الذي يرافق الطالب في مراحل الدراسة حتى يتخرج من الجامعة، وفيه يحفظ الطلاب أقوال وحكم الأسدين، ومبادئ حزب البعث. كانت هذه المنظومة كفيلة بتكريس معنى وحيد لكلمة سوري، ولمعنى الانتماء السوري، بأن يكون مقونناً بشعارات حزب البعث والأحزاب الأخرى التي فقدت فحواها الثوري والسياسي، وصارت مجرد هياكل ومجسمات سياسية يحركها النظام على هواه.

المساهمون