"أحلام عابرة" لرشيد مشهراوي: حمامة فلسطينية تبحث عن بيتها

21 مارس 2025
رشيد مشهراوي: تناوُل الحالة الفلسطينية من منظور أوسع (أحمد حسب الله/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "أحلام عابرة" للمخرج رشيد مشهراوي يتناول رحلة سامي في البحث عن حمامته المفقودة، مسلطًا الضوء على تحديات الاحتلال الإسرائيلي والجغرافيا الفلسطينية المجزأة.
- يركز الفيلم على معاناة الفلسطينيين اليومية، مستخدمًا الفكاهة السوداء والأمل في دولة حرة، مع تجنب التركيز على غزة وتقديم منظور تاريخي أوسع.
- يبرز الفيلم جمال حيفا كمدينة حديثة، ويستخدم الحمامة كرمز لكشف انتهاكات الاحتلال بطريقة غير مباشرة، بعيدًا عن الصراحة السياسية المعتادة.

 

هناك أفلام حاولت تحديد هوية أمّة بتتبّع تاريخها الحديث، والارتحال في أرجاء جغرافيتها. أمثلة، حتّى في أعمال مختلفة للغاية: الأميركي "فورست غامب" (1994)، لروبرت زيميكس، يعرض خريطة لركض بطله من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي في أميركا؛ الإيطالي "أفضل ما في الشباب" (2005)، لماركو توليو جيوردانا، الذي يُقدّم كلّ مدينة من خلال بطاقة بريدية/عنوان. المفهوم نفسه، مُطوَّراً في المكان أكثر من الزمن، طبّقه رشيد مشهراوي في "أحلام عابرة"، الذي افتتح الدورة الـ45 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي" في أول عرض دولي له، مع فارق أنّه خريطة افتراضية، وتمثيل جغرافي لأرضٍ وطنية مُحتلّة ومجزّأة، ومساحة جغرافية مثالية، كما ينبغي أنْ تكون فلسطين.

سامي (عادل أبو عيّاش) مُراهقٌ فلسطيني يعيش في مخيم للاجئين. ذات يوم، لم تعد حمامته المحبوبة إلى قفصها. نعلم مدى دقّة هذه الحيوانات في العودة إلى نقطة البداية، حتى بعد رحلات طويلة جداً. يقنع سامي صديقه بمرافقته، حاملاً القفص بيده، من مخيمه في قلنديا، قرب رام الله، إلى بيت لحم، حيث يعيش خاله كمال (أشرف برهوم)، ظانّاً أنها عادت إلى موطنها الأصلي. مع خاله وابنته (إيميليا ماسو)، طالبة الصحافة، يسلكون الطريق إلى القدس القديمة، حيث يوجد مربّي حمام ربما لجأ إليه الطائر المفقود. لكنّ المحاولة تفشل، فيقرّرون محاولة العثور عليها في الأصل النهائي، حيث ربما عادت، أي إلى مربّ آخر في حيفا.

لن يجدوا الطائر، لكنْ سيذهلهم جمال تلك المدينة ذات الأضواء النيونية المطلّة على البحر. الرحلة كلّها تجري في يومٍ واحد، فالجغرافيا الفلسطينية شريط صغير من الأرض رغم تاريخها القديم والمُعقدّ. كما فعل مشهراوي في أغلب أفلامه، يصف هنا لاندسكيب فلسطيني: التلال القاحلة، والمدن ذات الثقافة العربية النموذجية، بأسواقها وبازاراتها وأنشطة الحرف اليدوية للنحاتين فيها، إلخ. "أحلام عابرة" فيلم طريق يعبر طرقاً مُضطرّبة وشاقّة، فالسفر يعني غالباً التوقّف عند الحواجز الإسرائيلية، والتعرّض لتفتيش مهين. استعارة الحمامة، التي يُمكنها الطيران والسفر بحرية، سهلة للغاية. لكنّها حمامة زاجلة، تميل إلى العودة إلى أصل رحلتها. وحيفا أرض أجداد، مدينة هُجّر منها آلاف الفلسطينيين في نكبة 1948. تلك المدينة التي عاش فيها أجداده، كما يخبر الخال ابن أخته.

 

 

رشيد مشهراوي أحد أبرز أسماء السينما الفلسطينية في جيلها الثاني بعد النكبة. في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، كان الوحيد الذي عمل في غزّة المحتلة. لم يقتصر على الأفلام الوثائقية، بل ركّز على أخرى روائية في الأراضي المحتلة، مع فرق عمل محلية حصرياً. كرّس كل أفلامه لتصوير معاناة شعبه تحت الاحتلال الإسرائيلي، والفيلم الجديد ليس استثناءً. يُمكن النظر إلى بعضها باعتبارها تاريخاً لقطاع غزّة، حيث ولد في مخيم للاجئين. في "أحلام عابرة"، اختار عدم الحديث عن غزّة، التي لم يذكرها إلا مرّة واحدة، خاصة في هذه اللحظة الدرامية الصعبة. أما عن غزّة، فساهم أخيراً في إنتاج الفيلم الجماعي "من المسافة الصفر"، المؤلّف من 22 فيلماً قصيراً، عن المذبحة الحالية في القطاع، ويعرض في مهرجانات سينمائية منذ منتصف العام الماضي.

في جديده، تناول الحالة الفلسطينية من منظور أوسع وأكثر تاريخية. في البداية، هناك جدارية باهتة تحمل وجه ياسر عرفات، الشخصية المحورية في سينما المخرج، وبطل المقابلة الوثائقية التي أجراها معه، "عرفات، أخي" (2005)، الذي كانت تربطه به علاقة حب ـ كراهية. في أحداث الصبي الباحث عن الحمامة، وعائلته وأصدقائه، قصة معاناة الشعب الفلسطيني، الملموسة دائماً، مباشرة أو مجازاً. فوالد سامي أمضى 12 عاماً في السجن، ويُشار كثيراً إلى الحرمان من الحرية، كحالة صديق الصبي الذي حبسته والدته في المنزل عقاباً له. صديق الخال عانى طرده من بيته، ويروي حرفيٌّ ممن يعملون مع الخال نكتة عن فلسطيني يلتقي جنّي المصباح، الذي يطلب منه أنْ يتمنّى أي شيء، فيتمنّى بناء جسر يربط فلسطين بروما. لكنّ الجنّي يستصعب الأمر، فيسأله طلب أمنية ثانية أكثر قابلية للتحقّق، فيجيبه الرجل: "أريد دولة فلسطينية حرّة مستقلّة، وعاصمتها القدس"، فيردّ الجنّي مُستدركاً: "كم عدد حارات الجسر؟". في مشهدٍ آخر، يقول الخال لصاحب متجر يطلب مساعدته في العثور على الحمامة: "أنا لا أطلب منك تحرير القدس".

ربما يبدو كلّ شيء بسيطاً ومباشراً. لكنْ، في "أحلام عابرة"، ما يُحذف مُهمّ أيضاً، وما لا نراه لكنّنا نعرف أنه موجود. الإشارات إلى الرمزية المسيحية مُتكرّرة: صلبان خشبية منحوتة، وغيرها من الهدايا التذكارية لسياح يأتون إلى مسقط رأس يسوع. ثم نرى موكباً دائماً بالصلبان، كدرب آلام. من بين الديانات التوحيدية الثلاث، الموجودة بالأراضي الفلسطينية، لا يُظهر مشهراوي إلا واحدة، تلك التي لا يشير إليها طرفا الصراع، مُضيفاً ملاحظة غامضة إلى النهاية.

لماذا تشعر الشخصيات بالرهبة من جمال حيفا؟ ربما لا يكون هذا مجرّد تذكير بأصول المرء. يصلون إلى حيفا في المساء، مع حلول الظلام. المدينة مختلفة تماماً عن تلك التي رأيناها قبلاً: مبهرجة ومتلألئة وتقطر منها الأضواء. تذكّر بنوادٍ حديثة، وأماكن ترفيه، كما حال مدن غربية غنية، أو أشباهها الإسرائيلية. ربما كانت الحمامة من نوع خاصّ، استدرجتهم إلى وجهة غامضة. أو ربما أنّ بلدهم، ببساطة، تغيّر في ظلّ الاحتلال.

فيلمٌ بسيط، بحبكة فضفاضة ودراما مُصطنعة قليلاً، جهد فيه مشهراوي في التخلّي عن الصراحة السياسية المعتادة في أفلامه السابقة، والاقتراب من بساطة قصّة رحلة تسلّط الضوء على انتهاكات الاحتلال. الحمامة ليست رمزاً للسلام، بل أداة يستخدمها لكشف الوجه القبيح للاحتلال، من دون اللجوء إلى العنف.

المساهمون