أحد السعف... فولكلور قبطي حيّ

أحد السعف... فولكلور قبطي حيّ

25 ابريل 2021
تحتفل الكنيسة بهذا اليوم فتخصص له قراءات لا تُتلى إلاّ فيه (Getty)
+ الخط -

بنكهة مصرية قديمة، يحتفل الأقباط سنوياً بعيد "أحد السعف"؛ إذ يستلهمون مشهداً تاريخياً للجموع التي خرجت لاستقبال السيد المسيح في أورشليم (القدس) حاملة فروع سعف النخيل وأغصان الزيتون. وقد أشار عددٌ من المؤرخين القدامى إلى احتفالات الأقباط بهذا اليوم، فإذ بصورتها لا تختلف كثيراً عما هي الحال اليوم.

أحد السعف الذي يوافق هذا العام اليوم بالذات (تقويم شرقي، أما في التقويم الغربي فقد صادف يوم 28 مارس/آذار الماضي)، يطلق عليه أيضاً "أحد الشعانين"، وهي كلمة عبرانية بمعنى "يا رب خلّصْ"، كما يسمى أيضاً أحد الخوص، وأحد الزيتون، أو عيد الزيتونة، وهو الأحد الذي يسبق عيد القيامة مباشرة، كما يوافق اليوم الأول من الأسبوع الأخير من الصوم، المسمى بأسبوع الآلام.

على الرغم من أنّ الحدث الأصلي الذي يحتفل به في هذا العيد وقع في أرض فلسطين، فإنّ المصريين صبغوا هذا العيد بطابعهم الخاص، فلسعف النخيل رمزية متعددة في الفولكلور المصري القديم، فهو من النباتات المميزة لعيد رأس السنة، فالسعف الخضراء ترمز إلى بداية العام، وفي العيد كانت جموع الناس تحملها لتضعها على مقابر ذويها، وتوجد صور قديمة لكاهن يحمل سعف النخيل إلى المقابر.

ومن سعف النخيل كانت تصنع أنواع مختلفة من التمائم والمعلقات. وفي عصور الرهبانية الأولى؛ كانت صناعة الخوص من الأعمال الرئيسية التي يقوم بها الراهب بعد الصلاة والصوم، إذ هي مورده المالي الوحيد الذي يحصّل رزقه منه، وربما كانت وسيلته الوحيدة للتسلية والترفيه أيضاً. استعداداً لأحد الشعانين خصوصاً، يبدأ الأقباط منذ صباح الجمعة السابق له بتجميع خوص النخيل، وذلك عبر محترفين ينتقون بعناية الأنواع التي يسهل عليهم جدلها وتشكيلها.

ومن أشهر الأشكال التي يتفنن فيها صانعو السعف المهرة هذه الأيام: "الجريد المجدول" إذ تجدل أوراق السعف حول محور عود الجريد على شكل جناحي ملاك. وهناك "مجدولات الزينة الصغيرة" كتلك التيجان التي يضعها الأطفال على رؤوسهم، والخواتم والأساور والأحزمة. كما تبرز المجدولات الرمزية الدينية مثل "مجدولية الصليب" وتتنوع تشكيلاته بين البسيط والمعقد، وفقاً لمهارة الصانع. وهناك "مجدولية القربانة" وهي مربعة الشكل يُستخدم في صنعها ما يقرب من عشرين ورقة من ورقات السعف، وتتكون من طبقتين مجدولتين من السعف على شكل حافظة، تفتح من أحد الجوانب، ويوضع بداخلها قطعة من خبز القربان.

وهناك مجدولات أخرى متنوعة ودقيقة مثل أشكال الحمار والجمل. يحمل المحتفلون معهم مجدولاتهم في يوم أحد السعف ويتوجهون إلى الكنيسة لأداء الصلوات، وهناك ترش تلك المجدولات بالماء المصلى عليه، فتحظى، وفق الأدبيات الكنسية، بالقداسة والبركة، وهو ما يجعل من الحفاظ على تلك السعفات أمراً لازماً، فيحتفظون بها للعام المقبل، ويستبدلونها بالمجدولات الجديدة، ثم يتخلصون من السعف القديمة بإيقاد الأفران بها. على المستوى الديني، تحتفل الكنيسة بهذا اليوم فتخصص له قراءات لا تتلى إلاّ فيه، وتستعرض تلك القراءات آلام وعذابات المسيح. بينما على المستوى الشعبي، يرصد المؤرخون القدامى كيف كانت الاحتفالات تخرج إلى الشوارع ويشارك فيها جميع المواطنين.

يقول تقي الدين المقريزي (1364-1442) عن احتفالات أحد الشعانين: كان الأقباط يخرجون من الكنائس حاملين الشموع والمجامر والصلبان خلف كهنتهم، ويسير معهم المسلمون أيضاً ويطوفون الشوارع وهم يرتلون، وكانوا يضربون خمسمائة دينار (ذهبية) على شكل خراريب ويوزعونها على الناس، وكان يباع في أسواق القاهرة البيض الملون بما يتجاوز حد الكثرة، فيقامر به العبيد والصبيان والغوغاء. وكان القبط يتبادلون الهدايا من البيض الملون والعدس المصفى وأنواع السمك المختلفة ويقدمونه لإخوانهم المسلمين. بينما يذكر المؤرخ القبطي أبو المكارم سعد الله بن جرجس (1149-1209) أنّ موجة من التعصب ضد الأقباط قد ضربت مصر في بعض السنين فتوقف هذا الاحتفال، إلى أن ذهب رجال من الأقباط إلى الوالي الذي أمر باستعادة المسيرات الشعبية في أحد الشعانين، وشدد على حماية الاحتفال ومعاقبة كلّ من تسوّل له نفسه بتعكير صفو المحتفلين.

المساهمون