"صورة مثالية" لهلا الكوش: توثيقٌ روائي يسرد التباسات جميلة

"صورة مثالية" لهلا الكوش: توثيقٌ روائي يسرد التباسات جميلة

31 مايو 2021
هلا الكوش بين والديها: أهذه هي "الصورة المثالية" المنشودة؟ (الملف الصحافي)
+ الخط -

تريد هلا الكوش تصالحاً عميقاً، يُرمِّم علاقة معطّلة بينها وبين والديها، وليد ونزيهة. 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 شاهدٌ على صدامٍ بين الابنة ووالدها، فيحدث انقلابٌ ناشئ من صدمة حادّة، تُدخل الشابّة في قلقٍ وتمزّقاتٍ وتيه، بينما يُصاب الأب بجرحٍ بليغ، يقول أمام ابنته إنّه قاسٍ وأليم. التصالح مطلوبٌ، و"الصورة المثالية" (2020، 31 دقيقة) وسيلةٌ لتحقيق المبتغى، إذْ تُصبح الكاميرا (ميشال لبكي) مرآة، تنعكس فيها مشاعر وتفكير ومواجهات. أمامها، يُقال كلامٌ بنبرة هادئة أحياناً، وبتوتّر وغضبٍ أحياناً أخرى. دموعٌ تنهمر، وابتسامات معلّقة، وتعليقات تمتدّ من صدامٍ حاصلٍ بين أبٍ وابنته، إلى وقائع مرتبطة بالعلاقة القائمة بين الوالدين والابنة.

لن يكون مهمّاً معرفة التفاصيل الأساسية والثانوية للصدام، أو سببه ووقائعه ومبرّراته (الدقائق الأولى تروي أموراً كثيرة بأسلوبٍ بصريّ، يُثير بعض توتّر وقلق مَطلوبين). الحكاية تقول إنّ وليد يصفع هلا على وجهها بعنفٍ، فيزداد عطب السمع لديها. كلامٌ كثيرٌ يُقال: أبٌ يحاول إظهار نفسه منفتحاً ومعتدلاً، من دون التنازل عن سلطته كأبٍ ورجلٍ منتمٍ إلى بيئة اجتماعية، لها ثقافة وتربية ومسلك تضعه في مرتبة متسلّطة. أمّ "تُعاند" حدثاً آنيّاً، لوقوفها إلى جانب زوجها، ولترفّعها عن حادثةٍ تراها عادية، فكلّ شيء يمرّ وينتهي، بالنسبة إليها. ابنةٌ تريد مُتنفّساً يُشبه علاجاً من صدمةٍ، فالوالدان مُنفضّان عنها كما تشعر، و"لحظة تخلٍّ"، ناتجة من غضبٍ مؤقّت، تؤدّي إلى عنفٍ غير مطلوبٍ، يقول وليد إنّه غير راغبٍ فيه البتّة، لكنّه يحصل عندما "يُجرَحُ" الأب.

مسائل كثيرة تُروى في فيلمٍ قصير، يحمل ثقلاً كبيراً وعمقاً مرتبكاً في عائلة مؤلّفة من 3 أشخاص (يظهرون، هم وحدهم، أمام الكاميرا). غير مهمّ معرفة سبب الصفعة، رغم إيحاءات به. غير مهمّ معرفة خاتمة مسار الحدث، رغم إشارات إليها. الدقائق القليلة الأولى مليئة بصُور فوتوغرافية، تستعيد ماضياً عائلياً. صوتٌ يقول مقتطفات من أحوال وأحداثٍ وتفاصيل. الصُور الفوتوغرافية جزءٌ من البناء الدرامي، كتسجيلاتٍ فيديوية عائلية. التدقيق بهذا كفيلٌ بتبيان مسائل، لكنّ الأهمّ يبقى في كيفية تحويل هذا كلّه إلى سردٍ سينمائيّ، "يتواطأ" الثلاثيّ على قوله بأصواتٍ ثلاثة.

الأسئلة المطروحة في كلامٍ مباشر كثيرة ومتنوّعة، وتقول أشياء عدّة عن موروثٍ يتحكّم بأفرادٍ، وعن عيشٍ يفرضه أفراد، وعن علاقة تنتقل من أقصى الدلال إلى صفعةٍ، تصدم هلا المدلّلة، وتدفعها إلى قهرٍ ووجعٍ وخرابٍ في الذات والروح. هذا ناتجٌ من شدّة الدلال السابق على الصفعة، بحسب وليد.

 

 

غير مهمّ أيضاً معرفة مآل الثلاثيّ في نهاية فيلمٍ، يُراد منه أنْ يكون اغتسالاً من حالةٍ تُثير ضرراً. السياق الذي يُبنى الفيلم عليه أهمّ من تفاصيل، ربما تكون أساسية لهلا، أو ربما تكون دافعاً إلى صُنع الفيلم. سياق ملتبس، إذْ يضيع كلّ حدٍّ بين واقع وتوثيق ومتخيّل، ويختفي كلّ حاجزٍ بين تمثيلٍ وأداء وحقائق. مشاركة وليد ونزيهة الكوش في صُنع الفيلم (هندسة الديكور لهما) يُزيد من التباس النصّ السينمائيّ وفضائه وحكاياته. التناقض، الحاصل بين لحظاتِ سكينة وأخرى مليئة بتوتّر وغضب وصراخٍ خفيف، يُوحي بأنّ الالتباس مطلوبٌ لإثارة أسئلة عن معنى الصورة والحياة والعلاقات.

أحياناً، يختفي النَفَس الوثائقيّ، فيبدو الثلاثي في حالة تمثيل. أحياناً أخرى، يتحوّل التصوير إلى توثيقٍ لحدثٍ مؤثِّر في روح هلا وذاتها وحياتها وجسدها، رغم أنّ الحدث وسببه غير واضحين، أو غير مرئيين بسهولةٍ (على المُشاهد أنْ يتنبّه إلى تفاصيل ومسارات). التوليف (هلا الكوش) يصنع تماسكاً داخلياً بين لقطاتٍ، تُحمّلها هلا هوامش وملامح، تروي جوانب من حكايةٍ، يرتكز بعضها على تعابير صامتة، لا على كلامٍ مباشر.

للراوية دورٌ في تقديمِ شخصيةِ شابّةٍ، تعاني ألماً كبيراً. البداية منبثقة من صوت مؤذّنٍ لحظة التكبير. كاميرا هادئة، وصوت الراوية يُقدِّم حالة وشخصياتٍ ورغباتٍ، مع صُور فوتوغرافية كثيرة. يُكتب على الشاشة أنّ جانباً متفائلاً في ذات الشابّة المخرجة يُثيرها دائماً إزاء فكرة تمكّنها من مواجهة والديها، ذات يوم. حينها، تُقرِّر إنتاج وثائقيّ، مع تأكيدها على ثقتها بأنّ الأمور ستنتهي بطريقة "سعيدة وإيجابية". لكنْ، أتكون النهاية سعيدة وإيجابية، فعلاً؟ ألنْ تُعلِن الراوية، منذ البداية أيضاً، أنّها ستشعر بكونها ساذجة، لأنّ الأمور غير سائرةٍ بالشكل المتوخّى منه؟

إيراد بعض تفاصيل أساسية لن يحول دون مُشاهدةٍ، ستكون مُتعِبة (لعلّ هذا مطلوب)، قبل استرخاءٍ أمام شاشةٍ تنقل، بالتباسٍ جميلٍ، تفاصيل عائلية، ستعبِّر نزيهة مراراً عن رفضها إفشاءها أمام الآخرين. التفاصيل، بالنسبة إليها، خاصة وحميمة وعائلية جداً، ولن يكون ضرورياً أبداً سردها أمام كاميرا، من أجل فيلمٍ سيكشف وسيقول وسيُعرّي وسيفضح: "قصّة صورة غير كامنةٍ في ما يحصل في الكادر، بل بالأحرى في خارجه"، تقول الراوية. هلا تسأل والديها، كلّ واحدٍ منهما على حدة، عن الصورة المثالية للعائلة، بالنسبة إليه. المفردات المستخدمة مثالية وإيجابية. بالنسبة إلى الأب: "تقاليد وثقافة ودين". تُحدِّدها الأم بـ"الرقّة/ الحنان، والتعاطي مع الآخر، والوحدة/ التضامن، والتضحية". عند إلحاح الابنة على تحديد 3 مفردات، تقول نزيهة: "صراحة وثقة وحبّ"، مضيفة "وعطاء وحنان". في الفيلم، قصّة الصورة تحصل، إذاً، خارج الكادر.

"الصورة المثالية" يُشير إلى هذا، التباساً وتحايلاً. يثير تناقضاتٍ، تؤدّي إلى علاقةٍ بين مُشاهِد يتوق إلى معرفةٍ، وفيلمٍ لن يمنحه معرفة كلّ شيء، فالتحايل سينمائيّ، وصُنعه جميلٌ.

المساهمون