"3 مخارج منطقية" لمهدي فليفل: اختزالٌ بصريّ لواقعٍ مؤذٍ

"3 مخارج منطقية" لمهدي فليفل: اختزالٌ بصريّ لواقعٍ مؤذٍ

25 سبتمبر 2020
مهدي فليفل: لا منطق في التعامل اللبناني مع الفلسطيني (ماتّ كارّ/ Getty)
+ الخط -

 

يصعب على فيلمٍ، يتناول فصولاً من السيرة اليومية للفلسطينيين المهجّرين في لبنان، التغاضي عن مصائب تحلّ بهم جرّاء سياسات البلد ضدّ الحقوق الطبيعية لعيشهم ولصون كراماتهم. "3 مخارج منطقية" (2019) لمهدي فليفل، الدنماركي الفلسطيني الأصل المولود في دبي (1979)، يرتكز على توثيق يومياتٍ جديدة لصديقه رضا الصالح، المقيم في مخيم عين الحلوة (صيدا، جنوب لبنان)، وبعض تلك اليوميات مرتبط بأفعال سلطة لبنانية رسمية، تُصرّ على محاصرة الفلسطينيين في حياتهم بحججٍ واهية. هذا غير منفضٍّ عن بؤس اليوميّ في مخيّم، يُعتبر الأعنف والأكثر اكتظاظاً بين مخيّمات الفلسطينيين في لبنان، الذي تحاصره السلطة اللبنانية بجدار فصل عنصري، يُكمِل حصارها لهم، المتمثّل بقوانين تمنع عنهم حقوقاً كثيرة.

بين الذاتيّ والعام، يتجوّل مهدي فليفل، رفقة رضا الصالح، في بعض أزقّة المخيّم. يلتقط أحداثاً وانفعالاتٍ تكشف خفايا حياة فلسطينية قاهِرة ومذلِّة ومُقلِقة. قبل 10 أعوام، يروي فليفل هجرة الصالح إلى أثينا لـ3 أعوامٍ، تنتهي بفشل الخلاص، وبقسوة العودة إلى المخيّم. الصالح يحمل مسدّساً الآن. عيناه قاسيتان، تُخفيان انفعالاتٍ تتمكّن الكاميرا (تصوير فليفل وطلال خوري) من إبراز بعض المخبّأ في ثناياها، وفي مسام روحها وتفكيرها الصامت. يستند إلى تسجيلاتٍ مُصوّرة عن أحداثٍ في المخيّم، أو عن لقاءات سابقة مع الصالح، إثر عودته الملعونة من غربة أثينا، مُدمناً على الهيرويين ("عودة رجل"، 2016، 30 دقيقة).

وإذْ يرتبط الفيلمان مباشرة بمخيّم عين الحلوة، فإنّ المخيّم نفسه نواةٌ أساسيّة لـ"عالم ليس لنا" (2012، 93 دقيقة)، لبحثٍ سينمائيّ في أحوال 3 أجيال، كالبحث، تاريخياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وإنسانياً، في أحوال لاجئين محاصرين في مخيّمٍ يزداد، عاماً تلو آخر وفيلماً تلو فيلمٍ، اختناقاً وانهياراً وعنفاً وثقلاً. يظهر رضا من مسام المخيّم وناسه، فيُرافقه فليفل في أزقّته وفضائه وانكساراته وآلام ناسه وسطوة مسلّحيه وحصار دولةٍ له، في "3 مخارج منطقية"، الذي يؤكّد الخراب مُجدّداً، فالمخيّم منذورٌ لمواجع غير ناضبة، ولتمزّقات غير ملتئمة، ولأحلام مجهضة.

في "لقد وقّعت على عريضة" (2018، 10 دقائق)، يستخدم مهدي فليفل هاتفاً كأداة أساسية لحوارٍ بين شخصين، تغيب ملامحهما، فللكلام أولوية، لأنّ مضمونه أهمّ. غياب الملامح يكتمل مع لون رماديّ يُظلِّل المساحة الصغيرة لغرفةٍ تطلّ على شتاءٍ (بين برلين ولندن)، يعكس ارتباك ذاتٍ وروح. التوقيع على عريضة تُقلِق المُوَقِّع (فليفل)، فيستنجد هاتفياً بصديقٍ يحاول أنْ يُبيِّن له ما هو أبعد من التوقيع، في السياسة والغربة والوطن والانفعال والقلق. الاتصال الهاتفي أحد الركائز الأساسية لـ"3 مخارج منطقية"، إلى جانب رضا والمخيّم والبلد. ارتباك المخرج إزاء اتّهامات مُسَاقة باطلاً ضد صديقه، تدفعه إلى اتصالٍ هاتفي بباحثة اجتماعية (ماري قرطام)، مُقيمة في باريس، محاولاً أنْ يفهم منها، "منطقياً"، ما يجري، فتضحك ماري قبل أن تُخبره بأنْ لا شيء منطقياً في التعامل مع الفلسطينيين في لبنان: "إنْ تسأل منطقياً، فلن تفهم شيئاً. الفلسطيني يُعامَل في لبنان معاملة أمنيّة. هذا يعني أنّه خَطَرٌ. هو يعيش في عالمٍ استثنائي، كلّ شيء يُطَبَّق عليه يكون خارج المنطق".

 

 

بحسب ماري قرطام، هناك ما يُعرف بـ3 طرق "منطقية" لمواجهة ما يعيشه الفلسطينيون من "استغلال وتهميش وعنصرية": المخدرات (تعاطياً وترويجاً)، الانتماء إلى فصيلٍ فلسطيني (إسلامي أو تابع لـ"منظّمة التحرير الفلسطينية")، الهجرة. يقف رضا أمام أحد مداخل المخيّم الممنوع عليه أن يخرج منه، فهو مطلوب بتُهم في جرائم حاصلةٌ أثناء هجرته الملعونة إلى أثينا. لكنّه يقول لفليفل إنّ يوماً ما آتٍ، "سيخرج" فيه إلى العالم. الرماديّ الذي يُظلِّل "لقد وقّعت على عريضة" يعثر، في "3 مخارج منطقية" ـ المُشارك في برنامج الأفلام القصيرة، في الدورة الـ10 (8 ـ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية (السويد)"ـ على حيّز يجعل الصورة ضبابيّة أحياناً، مُحيلةً اللقطات إلى متتاليات سريعة لحركة رضا داخل أزقّة المخيّم، ولحالته ولمناخ حياتيّ فيه. فالتوليف (مايكل آغْلوند) يتوافق مع إيقاعٍ لاهثٍ، رغم بعض هدوء وسكينة وبطء؛ ورضا ـ وإنْ يبدو هادئاً بوجه قاسٍ يوحي بطيبة مخبّأة في روحٍ قلقة وتوّاقة إلى خلاصٍ ـ يحمل جسده الفارع بعضلاته المتينة، ويرقص فيفرح فليفل لرقصه قبل أنْ تُنبّهه ماري إلى "قسوة" السبب الآيل إلى رقصٍ يتبدّى، في عمقه، نقيضاً للظاهر (يُعرَف السبب في كلام ماري لفليفل).

هذا قاسٍ، لكنّه حقيقيّ. المنظومة الحاكمة في لبنان تعتاد ممارسات قاسية ومؤذية وبشعة بحقّ الفلسطينيين، كما بحقّ اللاجئين السوريين والعاملين الأجانب، وللّبنانيين حصّة من قسوة ممارساتها تلك، وأذيّتها وبشاعتها. في 15 يوليو/ تموز 2019، تُقام تظاهرات فلسطينية في مخيّم عين الحلوة ضد قرار لبناني يمنع الأجانب من العمل في لبنان من دون تصريح: "لغاية الآن، يُنظَر إلى الفلسطينيين كلاجئين لا كعمّال أجانب"، كما يظهر في الفيلم.

رغم مدّته القصيرة (15 دقيقة)، يمتلك "3 مخارج منطقية" ـ اختير رسمياً للدورة الـ49 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي" ـ حيوية تكثيفٍ دراميّ، وجمالية اختزالٍ بصريّ يُحافظ، في الوقت نفسه، على وضوحِ قولٍ وتعبيرٍ وبوح، بصُوَر وكلام ولقطات وألوان وإضاءة.

المساهمون