"يوروفيجن" 2021... خطوط التوازي ونقاط التقاطع

"يوروفيجن" 2021... خطوط التوازي ونقاط التقاطع

06 يونيو 2021
فرقة "مانيسكن" على مسرح "يوروفيجن" (كنزو تريبويار/ Getty)
+ الخط -

كانت "إنسييمه Insieme" (1992) والكلمة تعني "معاً" باللغة الإيطالية، هي الأغنية التي أتاحت لمُغنيها توتو كوتونيو، ولبلده إيطاليا، الفوز بالجائزة الأولى في مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" التي استضافتها مدينة زغرب اليوغسلافية (عاصمة كرواتيا لاحقاً) عام 1990.

فوزٌ، حظيت العاصمة الإيطالية روما، من بعده بفرصة احتضان الدورة التي تلت، عام 1991. كما حظي صاحب الجائزة شخصياً بشرف تقديم الحفل الختامي السنوي الذي يعد من بين أكثر العروض الفنية تعقيداً على مستوى العالم، لجهة التنظيم والتنسيق والإدارة. في مستهل النسخة الإيطالية، ومن على منصة أستوديو 15 سينسيتا العملاق في روما الذي يتسع لقرابة 400 ألف مشاهد، وعبر موجات الإذاعة وعلى شاشات التلفزيون حول العالم، أعاد توتو أغنيته "معاً" بشطر بيتها الأخير المنطوق بالإنكليزية "لنوحّد أوروبا".

رغم المزاعم التي يُعيد تكرارها كلّ منتجٍ فني كان قد تبوأ منصب الإدارة لواحدة من الدورات المتعاقبة، بأن لا صبغة سياسية تلوّن توجه المسابقة أو تحكم خياراتها وقراراتها، فإنّ أغنيةً إيطالية تنشد لوحدة أوروبية موعودة، قُبيل عامين من توقيع دول القارة معاهدة ماستريخت (ديسمبر/ كانون الأول 1991) التي أتت بمثابة نبأ ولادة الاتحاد الأوروبي وعملته المشتركة اليورو، لم يكن ليُنظر لها بأيّ حال على أنّها مثالُ التزامٍ للإطار الفني ونأيٌ تام عن السياسي.

اليوم، مجدداً، بعد مضي ثلاثة عقود على نشيد توتو الهاتف لتوحيد أوروبا، تبدو حال "يوروفيجن" انعكاساً مثيراً لجميع الأحوال السياسية. منها حال الاتحاد نفسه، ومآل التفاؤل الذي أسس له، ناهيك عن حال العالم من حوله. متوازياتٌ تاريخيةٌ تُحيل الزمن الراهن أكثر تشاؤماً، إذ إنّ دورة 2020 قد تقرر تأجيلها بسبب الجائحة العالمية لتعقد أخيراً في المدينة الهولندية روتردام في مايو/أيار المنصرم.

أما العام الماضي، فلم يشهد فقط تفشي فيروس كورونا، وحصده أرواح الملايين، ناهيك عن قطعه أرزاق مئات الملايين، بل شهد أيضاً حدث انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بما له من أثر، ليس على ألق الحلم الأوروبي فقط، وإنّما على الأمل بمستقبل القارة السياسي والاقتصادي.

من هنا، تبدو النتيجة التي مُنيت بها المشارَكة الإنكليزية بعنوان "إمبرز" Embers (جمر)، إذ حصلت على عدد صفر من الأصوات، كما لو كانت استفتاءً رمزياً على مدى الاستياء من خروج بريطانيا من الاتحاد. أما فنياً، فلم تكن الأغنية لتستحق أكثر، إذ لم تقدم جديداً، بل أعادت مزيجاً مكروراً من موسيقى التكنو الإلكترونية، والـ "آر أند بي" الأفرو- أميركي مصحوباً بلوحة رقص هيب هوب وآلات الجاز النحاسية، علاوة على أنّ المغني جيمس نيومان James Newman بدا كأنّه يعاني من نقص واضح في الجاذبية واللياقة البدنية، فتسمع الأذن لهاثه وقد اشتد وعلا، ليطغى مرات على غنائه المتواضع أصلاً.

أما ألمانيا، محرّك الاقتصاد الأوروبي والمستفيد الأكبر من سوقه وعملته الموحّدة، التي تحرص دوماً على أن تظهر كأم القارة الحنون، كانت قد أرسلت مشاركة أقرب لأن تكون نشاطوية، تحمل رسائل احتجاجية ساخرة، تُسمع لبرهة كما لو وصلت متأخرة ويائسة، ضد تفشي وباء آخر على الأرض الأوروبية وفي العالم لا يقل خطورة عن كوفيد 19، ألا وهو رهاب الأجانب، الذي أخذ يُعزز على مدى العقد الأخير من بروز قوى هوياتية سياسية تهزّ دعائم الاتحاد وتهدد بتوالي انفراط عقده.

مع ذلك الزخم، لم تحظَ المشاركة الألمانية بدورها على أكثر من ثلاثة أصوات. فالأغنية التي حملت عنوان "لا أشعر بالكراهية" I Don’t Feel Hate من تقديم المغني الشاب جندريك Jendrik، ببنيانها الإلكتروني الهزيل الأشبه بالموسيقى المصاحبة لمقاطع فيديو الطهي على منصة "يوتيوب" ولوحات رقص بأزياء تنكرية، تناهت كما لو أنّها تئنّ دعائياً تحت ثقل مضامين سياسية تتخذ لها شكلَ عظات أخلاقية.

ثم أنّه كيف للشرق الأوسط ألا يكون حاضراً في عام يسعى إلى الهروب من عام عكِرٍ سبقه؟ المشاركة الإسرائيلية في "يوروفيجن" التي تثير الجدل كلّ عام، بلغت دور السباق النهائي لهذا العام، فجاء أداء الاغنية بينما كانت صواريخ الاحتلال تدكّ المدنيين والمباني السكنية في قطاع غزة. بينما علت أصوات على مواقع التواصل تطالب بمقاطعة الحدث الفني برمته، تضامناً مع الفلسطينيين.

لو قُدّر للنسخة الأخيرة من المسابقة أن تجري في موعدها العام الماضي، لحدث توازٍ تاريخي آخر يتجسد في فوز إيطاليا مجدداً، وذلك بعد تمام عقود ثلاثة منذ غنى توتو للأوروبيين بأن يوحّدوا قارتهم. الفوز الإيطالي هذا العام أتى مفاجئاً، ليس لأيّ اعتبار سياسي وإنّما فنّي، إذ إنّ الأغنية التي قدمتها فرقة مانيسكن Måneskin حملت معها بشارة بعث جنس الهارد روك، الذي سبق للنقاد الموسيقيين أن تسابقوا على نعيه خلال العامين الأخيرين.

للوهلة الأولى، وبمشهدية تعود إلى حقبة السبعينيات، تُسمع أغنية الفرقة الفائزة "اصمت وأحسن السلوك" Zitti e buoni كما لو أنّها موسيقى هارد روك صافٍ. إلا أنّ سحرها ينبع من عناصر أعمق اندماجاً وأكثر تلوّناً وأصالة. فأسلوب المغني داميانو دافيد يتجاوز الهيئة "الميركورية" (نسبة إلى مغني فرقة كوين الخالدة فريدي ميركوري 1946 -1991) إلى مزج أساليب الراب والهيب هوب. وبالإضافة لضمّ الفرقة عازفة للغيتار، هي فيكتوريا دي آنجيليس، يتناهى صوت الفرقة، علاوة على قوته وحيويته، بطابع أنثوي أخاذ، يغازل سياسياً الثقافة السائدة من باب النسوية، بقدر ما يتردد صدى لزمنٍ مضى.

ثلاثة عقود مضت، من فوز توتو كوتونيو إلى فوز مواطنه داميانو دافيد وفرقته "مانيسكن". ليتها الحال الأوروبية اليوم على ذات الحال التفاؤلية التي سادت أوائل تسعينيات القرن الماضي. أما المتشابهات والمتوازيات فهي الأخرى مستمرة، باستمرار هبوب رياح السياسة على مسارح الموسيقى. أبقاها وأشدها جلاءً ووضوحاً، هو أنّ الأوروبيين، على الأقل في ميدان الموسيقى الجماهيرية "البوب" لم يُفلحوا منذ ولادة الـ"يوروفيجن" سنة 1957 إلى اليوم، في أن يخرجوا عن العباءة الأسلوبية الأميركية، فتكون لهم حقيقةً "يوروفيجن" أي "رؤية أوروبية" كما يترجَم اسم المسابقة، في كيفية إنتاج ثقافة جماهيرية مستقلة.

المساهمون