"ولدٌ من الجنّة": جائزة "كانّ 75" لسيناريو غير مُقنع

"ولدٌ من الجنّة": جائزة "كانّ 75" لسيناريو غير مُقنع

03 يونيو 2022
"ولد من الجنّة": لقطات الحشود سحرٌ لا يُنسى (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

لعلّ ما اعتُبر جرأةً في السيناريو أهّله لنيل الجائزة. ربما هناك أسباب أخرى، منها جِدّة موضوعه، واقترابه من أماكن لم تنل اهتماماً مُركّزاً على النحو الذي بدت عليه. صحيحٌ أنّ "جامعة الأزهر"، كمكان وتجمّع لمُصلّين وطلّاب، ظهرت كثيراً في أفلامٍ عربية لكنّها لم تكن يوماً محطّ انشغال كاملٍ، أو هدف، تدور حوله صراعات سياسية ودينية، كما في "ولد من الجنّة" (2022)، للمصري السويدي طارق صالح (إخراجاً وكتابةً)، الفائز بجائزة السيناريو، في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي.

قُدِّم الفيلم في عرض أوّل في صالة سينمائية باريسية، قبل إطلاقه تجارياً في الصالات الفرنسية، في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. أثار موضوعه المُشوّق فضول جمهور باريسي، رغم الوقت المتأخّر لعرضه، الذي تابعه لساعتين (مدة الفيلم)، مع تنقّلٍ مُتعِب بين مَشاهد خارجية ـ مُصوّرة بكاميرا محمولة، للقاهرة، بصخبها وناسها، ولجامع الأزهر، بمآذنه الشهيرة ـ وأخرى داخلية، لجامع السلطان أحمد في إسطنبول.

استحالة التصوير في القاهرة فرضت على صالح اعتماد هذا الأسلوب، الذي له أثر سلبيّ فنياً. والمنع ربما يطاول العرض في مصر أيضاً، نظراً لما فيه من إيحاءات سياسية تنتقد العهد الحالي. الإيحاءات سياسية أكثر منها دينية، فـ"ولد من الجنّة" لا يتطرّق حقّاً إلى نقاشات دينية، يمكنها إثارة حساسيات ما. حلقات تدريس هنا، وأخرى هناك، يُعلن فيها أساتذة شيوخ ـ بشكل سطحي وسريع ومتوازن في منحه فُرص الكلام ـ نظرتهم، المتشدّدة أو المعتدلة، في الفقه والتفسير، وهذا لم يتجاوز الشرح إلى النقاش، فالتركيز أكثر على سلوك السلطة، وممثّلتها "مباحث أمن الدولة"، في التأثير على مجريات الأوضاع في هذا المكان الحسّاس.

توجّهٌ بدا في المقدمة، مع سطور عدّة، عن تأسيس الفاطميين للأزهر، ثمّ تحويله من مرجعية شيعية إلى سنّية في عصر لاحق، وعن كونه محور اهتمام كلّ سلطة سياسية جديدة، وخضوعه لمحاولات مستمرّة للتدخل في شؤونه وقراراته، نظراً إلى دوره ومرجعيّته في العالم السنّي.

من خلال مسيرة آدم (الفلسطيني توفيق برهوم)، الشخصية الرئيسية، تتبدّى صراعات السلطتين السياسية والدينية. ابن بسيط لصيّاد سمك، مُنجذبٌ إلى المعرفة والكتب، يُقبَل في "جامعة الأزهر" المرموقة في القاهرة. في يومه الأول، يُتوفّى فجأة الإمام الأكبر، فيجد آدم نفسه، عن غير قصد ومن دون أدنى رغبة، في قلب نزاعات على السلطة، لا هوادة فيها، بين نُخب دينية وسياسية في البلد. لآدم قلب أبيض، كما يُقال له. كان يعيش حياة بسيطة، موزّعة بين مسجد القرية والصيد مع والده. كان يُمكن لحياته أنْ تستمرّ هكذا، لولا المنحة الدراسية.

من مكان هادئ وشبه خال، يُثير سكينة وألفة في النفوس، إلى آخر يضجّ بحركة وأناس ومؤامرات، يدخله في وقتٍ غير مناسب. فراغ السلطة في الأزهر يُثير طمع المُعتدلين والإسلاميين والدولة، التي تريد فرض مُرشّحها، غير عابئة برفضٍ، مع استعدادٍ للتضحية بأيّ أحد يُعيق مساعيها. تختار "المباحث" الضعفاء وذوي الأوضاع الاجتماعية والمالية الهشّة، للتمكّن من السيطرة عليهم، ودفعهم إلى العمل لمصلحتها. آدم نموذج مثالي لهذا. يُجنّده مفتش المباحث (اللبناني فارس فارس) للتجسّس في "جامعة الأزهر"، سعياً إلى التدخّل وإيصال مُوالٍ للسلطة إلى رئاستها.

 

 

ينتمي "ولد من الجنّة" إلى النوع البوليسي والجاسوسية الخفيفة، بقصّته التشويقية، وإيقاعه السريع. إنّه ثالث فيلم لطارق صالح (مواليد السويد، 1972، لأمّ سويدية وأبّ مصري)، الذي يشترك مع فيلمه الثاني، "حادثة هيلتون النيل" (2017)، في أنّهما يتّخذان القاهرة موقعاً للأحداث، لكنْ من دون إمكانية التصوير فيها. حين عُرض فيلمه الثاني، نشرت صحفٌ أنّ فريق التصوير جهّز استديو في القاهرة، لكنّ الأمن المصري أغلقه قبل 3 أيام من بدء التصوير، ما أجبره على الانتقال إلى المغرب. هناك عناصر مشتركة أخرى بين الفيلمين من حيث المضمون: حصول جريمة قتل؛ وإظهار سيطرة مُطلقة للشرطة والأمن على المواطنين البؤساء، وعلى بعض رجال الدين؛ وشيء من وعظ ديني، مع انجذاب كبير للكاميرا (الخفيّة بسبب المنع) إلى شوارع القاهرة، وإبراز صُوَر ولافتات عريضة تُمجّد رئيس البلد.

لكنْ، إنْ كان "حادثة هيلتون النيل" بارعاً في كتابته وحبكته، فإنّ "ولد من الجنّة"، رغم أهميّته، أقلّ إقناعاً وقوة، في السيناريو، وفي تلاعبه بالأمكنة، وفي تعمّقه في شخصياته الأخرى غير الرئيسية. أحداثٌ عدّة غير مُقنعة، كطريقة تنفيذ جريمة قتل أحد المتعاملين مع الأمن في باحة المسجد، ولقاء المفتّش مع آدم في المكان نفسه دائماً، أي في مقهى (وسط البلد). وللإيحاء بانتماء المكان إلى القاهرة، بُثّت أغنيات مصرية، كـ"أنا بعشق البحر" لنجاة الصغيرة، المستخدمة في اشتغالات إيليا سليمان. بينما بدت طريقة جلوس آدم والمفتّش، كي لا يُلفتا الانتباه إليهما، مُثيرة للاستغراب، لسذاجتها، فالمفتّش حمل الجريدة التقليدية، وعلى طاولة قريبة مُخبرٌ مرتبك.

لم تُشكّل الأمكنة وحدة مكانية، فبدا التنقّل المُستمرّ بين صُوَر خارجية للأزهر وأخرى داخلية لجامع آخر كأنّها عملية قطع مفاجئة في التوليف (ثَايس شميدت)، من حيث طبيعة المكان والإضاءة والصورة. إنْ يكن خلط الأمكنة والبلدان جزءاً من سحر السينما، فالخلط ظهر هنا واضحاً، ما أثّر على تلقّي الفيلم، والاندماج في أجوائه المكانية. إلى ذلك، فإنّ بعض هذه الأمكنة، التي يُفترض بها أن تمتلئ بحياةٍ، كانت خالية منها، كقرية الصيادين وجامع القرية، الذي كان يجمع شيخه مع آدم. أمكنة بدت ديكوراً في معظمها، لا أمكنة حقيقية تدور فيها أحداثٌ، وتؤثّر في الشخصيات، التي (الشخصيات) بدت غريبة عنّها وفيها، في مواقف مختلفة.

باستثناء عيوبٍ ظهرت في لكنة الشخصيات أحياناً، كشفت أنّهم غير مصريين، فإنّ شخصية آدم مرسومة بدقّة كبيرة، في صراعاتها الداخلية وسلوكها، وفي تطوّرها مع مرور الوقت من براءة تامة إلى حرج وخوف، ثم إلى إدراك وبدء تلمّس هذا العالم الخارجي وصراعاته. هذا أدّاه توفيق برهوم بإتقان كبير. كذلك كانت شخصية المفتش، التي أدّاها فارس فارس، الممثل في "حادثة هيلتون القاهرة" أيضاً، رغم أنّه لم يكن ـ بشكله وملابسه وأسلوبه ـ ضابطاً مصرياً تقليدياً. لكنّ شخصياتٍ أخرى، لها أدوارٌ مهمّة في مسيرة الشاب، بقيت مُسطّحة وغامضة، كالقتيل وصديق آدم في المهجع، وقائد مجموعة الإخوان المسلمين، الذي لم تتوضّح علاقاته وميوله الحقيقية وطريقة وصوله إلى المنصب، قبل محوه بسرعة في مشهد سريع، شديد الإيجاز.

اللقطات الواسعة أضافت لـ"ولد من الجنّة" سحراً لا يُنسى (تصوير بيار أيِيم)، كلقطات الحشود خاصة، في صحن الجامع، أو في نزهة الطلاّب في الرواق، ما يُذكّر بـ"اسم الوردة" (1986) لجان ـ جاك آنو؛ أو تلك التي يُصارع فيها آدم، وسط الجموع، مُحاولاً إيجاد طريقه، ليتبدّى فيها مدى صغر الفرد وضعفه أمام الأمواج البشرية والمجتمع.

المساهمون