Skip to main content
"ناس من خشب" للفرعي: بكثير من الهجران
بدر العقباني
شكّل الإصدار مشهداً أصيلاً بعيداً عمّا تقف عنده التصنيفات عادةً من جمود (فيسبوك)

بغيتارِه الخشبي، وأدائه المؤثّر المبتعد عن الكليشيهات، أطلق مغنّي الراب وعازف الدرامز، طارق أبو كويك، المعروف بـ الفرعي، ألبومه الثّالث من سلسلة الخشب، تحت عنوان "ناس من خشب"، متضمّناً 11 أغنية.

بهذا العمل، يتوّجُ الفرعي عقداً موسيقياً مليئاً بالتعاونات الحيّة، ويؤكّدُ بصمتَه المختلفة عن السَّائد والتِّجاري. فالمغني الفلسطيني الأردني، الذي حملَ منذ ألبومه الأوّل "صوت من خشب" (2012) رؤيةً واضحةً وهويّةَ مشروعٍ بديل، يعودُ ليطرق باب التنوّع الموسيقي (أو لنقُلِ التفرُّع)، من أجل تجديد مشهد الرّاب والهيب هوب نفسه.

لم يتخلَّ الفرعي في ألبومه الأخير عن جرعة الغضب التي تميّزه، بل كثّفها هذه المرّة انطلاقاً من أغنيته "لو صرخنا." ولو أنّ تحوُّلاً طفيفاً طرأَ على المزاج العام لأغانيه؛ مزاجٌ تمثّلهُ أغنيته "تغيرتي" التي طرحها في  ألبوم "الرجل الخشبي" (2017). تلك الأغنية التي حقّقت لصاحبها شهرة واسعة؛ لِما حملتهُ من عاطفة كبيرة، ورؤية جدلية خاطب فيها المغنّي المدينة من خلال الحبيبة، مازجاً بين الاثنتين في روحٍ واحدة. تشّفُ عن مقدار من الهجرة عن الأولى، والكثير من الهجران عن الثانية، وهذا ما يُعانيه الشبابُ العربي من ألم الغربة عن الأمكنة والأحبّة.

تتبّعُ الفرعي المواضيع الجديدة في "ناس من خشب" يبدو جليّاً، منها جائحة كورونا، والحظر الذي تبعها. ذلك في أغنية "مهموم". الأمر الذي حيّد نوعاً ما مواضيعه الأثيرة، كالقضية والهوية ومسألة التّغيير. لكنّه استثمر في ذلك من حيث راهنية الحدث، والحرص على عدم التكرار، مستعيناً بالفيديو المُصوّر (كليب)، ليظهر بشاعة العنف الأسري، والضغوط الكبيرة التي تكاثفت أمامنا خلال فترة الإغلاق، في البلدان العربية المأزومة بخاصة. فإن سكتَت الشوارع؛ فالمنازل لا تسكت، والتمثيليات التي لعبها الأشخاص على أنفسهم وأسرهم ومشاكلهم أُسدِلتْ عليها غِلالة شفيفة خلال الإغلاق.

أمّا العودة إلى فلسطين الحاضرة دوماً، والوطن والذكريات، فكانت الثيمة الطاغية في أغنيتي "ثغرة" و"على الله تعود"، مع لمسة نوستالجية وُضِعت بلطف على تأثير غربته في لندن لمدة ثلاث سنوات. وفي "مدينة الملاهي" و"لما تصفى"، شرح الفرعي علاقة الأشخاص بالمكان، ولم يتبنَّ مشهداً غنائياً معيناً متقوقعاً داخله، ولم ينفِ الانتماء.

ومن جهة تقنيّة؛ فقد ابتعد عن استخدام ثيمة الأكوستك (العزف على الغيتار الخشبي وصوته فقط) المعتادة، وأدخلَ تأثيرات إلكترونية مختلفة على الصوت، ليتراكم في ما ذكر الشعور الدائم بقهر الهجرة "غير الشرعية"، ونهب أموال الشعوب والشتات العربي عامة، والفلسطيني خاصة.

هكذا، مع تعقيد الصوت والآلات والفيديوهات المصورة (كليب)، نرى أن الفرعي حافظ على إيقاعه الذي بدأه مع منتج الموسيقى المعروف بـ"الجهاز" في ألبومه الأول، كشاب يجلس على الكنبة ويغني لك في الغرفة، ليصل بعد خبرة عقد إلى القدرة على الحفاظ على الإخلاص ذاته لقضاياه وأدائه، مع تطور في الأدوات والصناعة وتسخيرها لفكرته.

قد يصعب تقسيم مشروع الفرعي؛ إذ تتشابك المفاهيم المطروحة في كل أغنياته. لكن من الجليّ أن الأغنيات التي طرحت في السنوات السابقة - كالإصدار التجريبي لأغنية "القلب الثاني" وأغنية "مرتاحة" التي كتبت قبل إطلاق أغنية "تغيرتي" - تحمل رؤية مختلفة بعض الشيء عن الأغنيات الجديدة، فقد كتبت في مرحلة حساسة من مراحل الربيع العربي، عندما كان الفرعي مستقرّاً في الأردن، ويتعاون مع الفرق والمشهد الموسيقي البديل في بلاد الشام على قدم وساق. هذا من علامات تأثره بوسطه الشعبي الجمعي. أمّا اليوم، فالفرعي خفّفَ من قرع ناقوس الخطر أو الصيغ المُباشرة، إلّا أنّه يبقى نموذجاً عن التفريغ الشخصي، وليس طريقةً ناجعة لتمثيل دعوى التغيير.

بالانتقال إلى أغنية "يا ناسي"، نجدها تحضرُ كخاتمة لعقده الموسيقي، وليس لألبومه فقط، فنادى ناسه (من تَفَرَع عنهم)، وهو يشعر أنه يتوجّه صوب إعلان بداية جديدة، ومشروعٍ مستمر يربط "المداخل" بالمهجر، وهذا السبب الكامن وراء "ناس من خشب"، ولو أنّ "يا ناسي" تبدو مكتوبة بنفَسٍ مُستعجِلٍ، لكنّها تتشكّلُ من معجمِ مصطلحاته التي نحتَها خلال السنوات الماضية.

يُتداولُ اسم الفرعي كمغني راب فقط، ولكن عند إعادة قراءة سلسلة الخشب، وعلى نحو خاص ألبومه الأخير، نستطيع الإقرار بأن الفرعي قد شكّل مشهداً أصيلاً بعيداً عمّا تقف عنده التصنيفات عادةً من جمود وتخشُّب؛ إذ جذبَ كثيراً من متابعي الراب والهيب هوب، وسخّر القوالب الموسيقية الجديدة، وتعامل مع موسيقاه وكلماته كإيقاعات، فهو أساساً عازفُ درامز. وكذلك فعل على صعيد المضمون، فأغنياتُ الفرعي تشرحُ موقف صاحبها من الحياة. إنّها بيانٌ في المواجهة، وتطلُّعٌ نحو التغيير الدائم، الشخصي فيها متأثرٌ بالعام، والعامّ صرخة جسورة في وجه الرّتابة والهيمنة.