"ميدوزا": صُوَر كثيفة تصنع السرد

"ميدوزا": صُوَر كثيفة تصنع السرد

04 اغسطس 2021
أنيتا روشا داسيلفا: الفنّ يواسي من كسرتهم الحياة (إليزابيتا آي. فيلاّ/ وايرإيماج)
+ الخط -

 

فيلمٌ برازيلي عن أزمة روح، تصير أزمة وجه. هذا يُذكّر البطلة ماري بحقيقتها. 8 شابات مُقنّعات يعترضن طريق بائعة هوى، ويُشبعنها ضرباً، إلى أنْ تعلن توبتها. يسجّلن لها فيديو تؤكّد فيه أنّها ستكون في خدمة الرب. يتركنها ملقاة على الأرض، مُلطّخة بدمها. يرجعن سعيدات إلى مقرّ الداعية السمسار، الذي يقودهن ومجتمعهن إلى الهاوية. هذا حاصل في الدقائق الخمس الأولى. بعدها، تُخصّص المخرجة ساعتين لتفسير من أين جاء هذا الاستهلال، وإلى أين يمضي بالبطلة ماري.

هذا كلّه في "ميدوزا"، جديد البرازيلية الشابّة أنيتا روشا داسيلفا، المعروض في النسخة الـ53 لـ"نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

ينتزع "ميدوزا" المتفرّج من رتابة حياته اليومية، ليكتشف تبعات محاولات فرض رؤية دينية واحدة على المجتمع، عبر حكاية تركّز على تجربة إنسانية فردية في بُعدها الكوني. حكاية ذات عمق سوسيولوجي، كُتبت بعين سيناريست غوّاصة في واقع بلدها، بمرجعية بصرية كونية.

يتقدّم السرد بعرض صُوَر كثيفة، تتناص مع لوحات قديمة، بدءاً بالأخضر الخفيف، الذي يحضر في جُلّ اللقطات. يجدُ اللون أصله وتفسيره في عنوان الفيلم. خضرة من لباس المليشيا، ومن رأس ميدوزا الأفعواني. تلك الخُضرة عاملٌ بصريٌ مشترك بين اللقطات كلّها.

في طريقهنّ، مرّت عضوات العصابة المؤمنة قرب تمثال رجل يصرع غولاً. تمثال يحيل إلى لوحات سان جورج، المرسومة منذ قرون. لا يظهر في الفيلم تمثال المسيح الفادي، الذي ينشر ذراعيه فوق مدينة ريو دي جانيرو. تمضي السيارة، وتتبدّل الأضواء على وجه الشابة وهي تقرأ ملصقات في الشارع: "الرب عظيم"، "الرب محارب".

خدمة لهذا الرب، تدافع ماري عن العفة بقناع بلاستيكي. تمنح نفسها حقّ الوصاية على الغير، على النساء خاصة، لقمع حريتهنّ في تقرير مصير أجسادهن.

هذه خطوة إلى الوراء في البرازيل الحالية، التي يحكمها الرئيس اليميني الشعبوي جايير بولسونارو، الذي نفى وجود وباء كورونا، ورفض إجراءات التباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامة، وتدابير الإغلاق العام، فجلب كارثة إلى بلده.

بحسب كتاب خوسيه كازانوفا، "الأديان العامة في العالم الحديث"، عرفت البرازيل تحوّلاً من كنيسة النخبة إلى كنيسة الشعب، في الربع الأخير من القرن الـ20. استخدمت كلمة الشعب بمعنى دفاع المجتمع عن نفسه ضد الدولة. اضطلع المجتمع المدني البرازيلي بدور محوري في الخطاب السياسي الجديد ضد الشعبوية، ذات الأصل الديني، وتزايد انخراط الناشطين الدينيين والكنائس في النضال من أجل التحرير والعدالة الاجتماعية. دافع لاهوتيو التحرير البرازيليون ليس عن امتيازات رجال الدين، بل عن الكرامة المقدّسة للبشر (ص 188 ـ 192).

 

 

تغيّر الاتجاه في بداية القرن الـ21، أي الآن (ملخّص "ميدوزا"). صعد الدعاة الدينيون، فحرّضوا الشابة، وصارت تدعو بإخلاص "يا رب طهر جسدي من الشهوة". ترجو الله أنْ يحرق خطاياها. لا بُدّ من قهر الجسد وحرمانه لتجنّب غضب الله. مدخل الإيمان مقاومة غواية الجسد. الجسد سجن أرضي، يُشبِّهه نحت لمايكل أنجلو بقرد أعمى. تكشف السينما أنّه يصعب الانتصار على رغبات الجسد. يخنق التزمّت بهجة حياة النساء. من هنا، نبعت محنة الرؤية الدينية في المجتمعات الليبرالية الحديثة. الحداثة تعتبر راحة الجسد مدخلاً إلى راحة الروح، لذلك تعتني السوق الرأسمالية بإرضاء رغبات الجسد، بنظافته وتدليكه وتجميله. لذا، يُصبح الماكياج من أكثر السلع رواجاً.

ماذا يخفي الماكياج البراق؟

يخفي نكبات وجه البطلة ماري. حين تعرّضت لعقابٍ لم تتوقّعه، لم يعد الماكياج ينفع. بينما ماري تبحث عن عملية تجميل، اكتشفت التالي: ما جدوى تجميل الوجه إنْ كانت الروح مكسورة.

وقع حدث عابر، فتغيّر مسار شابّة متدينة، أدركت أنّ الوجه أهم من الروح في عصر الصورة. من لا يعجبه وجهه، يخاف الكاميرا، ويكره صوره. يُعاني حساسية شديدة، حين يكتشف أنّ الآخرين يراقبون وجهه. ابتُكِر القناع لإخفاء الوجه الحقيقي. مع صعود الرجعية، في بلدٍ عرف لاهوت التحرير، يصير العنف والتضليل وسيلة أساسية لفرض الوصاية. تصير حرية الفرد مهدّدة. لذلك، تتبنّى أنيتا روشا داسيلفا مقاربة تركِّز على مشاعر الشخصية، أكثر من تركيزها على السياق.

نحت "ميدوزا" سمات الشخصية عبر 3 مراحل:

مرحلة خدمة أجندة الداعية بتبعية تامة، وعيش الحرمان كإيمان وسعادة قصوى. في هذه المرحلة، تقوم العصابة المؤمنة بمهمة جلد بائعات الهوى ليتُبْن.

المرحلة الثانية صارت ضمن مجموعة ممرضين، يعتنون بأجسادٍ، أصحابها في غيبوبة، لكنّ الممرضين يستمتعون بحياتهم. هذه مرحلة ملاحظة حقائق الطبيعة البشرية، ونشأة الشكّ، وعيش الحيرة بين العفّة والمتعة.

المرحلة الثالثة مرحلة اكتشاف الحبّ، وبدء المقاومة للتحرّر من سلطة الداعية.

حينها، أطلقت ماري صرخة معادية ضد مليشيا الداعية المشعوذ الغني، الذي يتاجر بأرواح الحائرين. اكتشفت زيف الدعاة وكذبهم، فاقتربت من اكتشاف الحقيقة. الحقيقة أفضل دواء للروح البشرية. تثبت لقطات النهاية قول فان غوغ: "على الفن أنْ يواسي من كسرتهم الحياة".

المساهمون