"مهرجان برلين للموسيقى"... غناء من خلف الكمامات

"مهرجان برلين للموسيقى"... غناء من خلف الكمامات

26 سبتمبر 2021
من عروض التظاهرة (بيتر أداميك)
+ الخط -

في عزمها لجعل العاصمة الألمانية تتنفس هواء الموسيقى من جديد، وإن يكن من خلف كمامة سميكة من نوع "إف إف بي 2"، ذات الحماية المضاعفة ضد كورونا على جبهتيّ الحرب على الفيروس، أي منع حامله من نقله لغيره والخالي منه انتقاله إليه على حدٍ سواء، والتي تجعل التنفس في حد ذاته مشقة، والتحدث من خلالها أو الاستماع إلى من يتكلم من خلفها شبه استحالة. مع ذلك، قررت مؤسسة برلين للمهرجانات الموسيقية Berliner Festspiele المضي قُدماً في دورة هذا العام من مهرجان المدينة للموسيقى الكلاسيكية Berlin Musikfest.

كيف لا، وسنة 2021 تصادف مرور سبعين عاماً على تأسيسها. من جهة أخرى، اقتضت ظروف الوباء أيضاً القبول بنصف الاستطاعة الكاملة لكل صالة استضافت عرضاً من العروض. كما فُرض على كل زائر التسجيل قبل الدخول. وذلك إما ورقياً أو رقمياً، بواسطة تطبيق يجري تنزيله مسبقاً على الجوال، يمسح رمزاً يسمح بنقل المعلومات الشخصية إلى قاعدة بيانات وزارة الصحة، لتُطلق آليات التعقّب في حال ظهور العدوى منعاً لانتقالها. فضلاً عن إبراز إثبات تطعيم بجرعتين ضد كورونا مضى عليه أكثر من أسبوعين، أو فحص سريع انتهى إلى خلوٍّ من العدوى، أو تعافٍ كامل من إصابة لم يمض عليها أكثر من شهورٍ ستة.

في ضوء استثنائية الحدث هذا العام لجهة سبعينيّة الدورة أولاً، وثانياً، لجملة التعقيدات الجمّة الناتجة عن عام ونصف من الجائحة العالمية، والمرتبطة بتنظيم العروض والقيود المفروضة على إحيائها وارتيادها، ناهيك عن إلغائها أو تأجيلها، إثر كل إغلاق جديد، أُريد للمهرجان أن يُستَهل بمناسبة تأسيسية ترمز إلى مستقبل واعد ومُشرق. لذا، أتى الحفل الأول ليُعلن عن ولادة أول كورال، أو جوقة غنائية ألمانية شبابية وطنية على مستوى الفيدرالية، أي أن أعضاءها شبيبةٌ يجري استقدامهم من الولايات الألمانية جميعها.

وللاحتفال بتأسيس كورال شبابي وطني، رمزية خاصة حمالة أوجه عدّة، وذلك في ظل الظروف الاستثنائية الحالية. أولها أن الغناء الجماعي، في ألمانيا على الأقل، كان من أبرز ضحايا الإغلاقات المتكررة التي شهدتها البلاد والعالم. ففي شهر أبريل/نيسان من العام الماضي، تقدم لوتار فيلر، رئيس معهد روبرت كوخ، وهي الهيئة الألمانية الحكومية المكلفة بمراقبة الأوبئة والسيطرة عليها، بنصيحة مفادها أن الغناء الجماعي ينبغي تجنّبه؛ إذ تُشير الأدلة العلمية إلى أن قوة دفع الهواء عبر الحنجرة أثناء الغناء، تمكن الفيروس من الارتحال بعيداً والحلول سريعاً في مزيد من الأجساد.

ثم أتت إصابة تسعة وخمسين من أصل ثمانية وسبعين، هم مجمل أعضاء جوقة كاتدرائية برلين البروتستانتية. لتؤكد مخاوف القيّمين على الصحة العامة والمسؤولين في مؤسسات الدولة. بهذا، جرى حظر الغناء الجماعي بجميع أشكاله الدينية والعلمانية. حظرٌ كان قد شمل أيضاً دروس الغناء، سواءً في المدارس العامة، أو الموسيقية الخاصة، وفي المعاهد والجامعات الفنية.

وجهٌ آخر ثقافي، هو أن لتقليد الغناء الجماعي في أوروبا الشمالية عموماً، وألمانيا بشكل خاص، جذوراً تاريخية عميقة ممتدة حتى العصور الوسطى. ففي حين أن الكنيسة الكاثوليكية المتمركزة جنوبي القارة، كانت قد حرّمت الترتيل على غير الرهبان، وخارج أطر الشعائر الدينية، كانت الكنيسة البروتستانتية، التي نشأت وتوسّعت في أقاليم الغرب والشمال، قد لمست لدى الموسيقى والغناء الجماعي تحديداً، قوة تنظيم وتأثير اجتماعي، من شأنها أن تُساعد على بث ونشر العقيدة الجديدة حينئذٍ.

مع بزوغ فكر التنوير منتصفَ القرن الثامن عشر، واتساع المسافة ما بين الدولة والكنيسة، انتقل تقليد الغناء الجماعي الغربي من المذبح إلى الفضاء العام. حينها تأسست في القرن التاسع عشر، ما عُرِف بحركة الجوقة العلمانية. ليتحول الكورال إلى وسيلة تربوية وتثقيفية مُجتمعية، تبنت أنماطاً متعددة من الأغنية، كعصر النهضة والباروكي القديم والشعبي التقليدي، وحتى الديني، وإن ظل خارج الإطار الشعائري. اليوم، يوجد في ألمانيا قرابة ثلاث وعشرين ألف جوقة. يبلغ عدد أعضائها قرابة المليون ونصف.

وللسياسة وجهٌ أيضاً. فالإعلان عن تأسيس جوقة شبابية وطنية، يأتي شهراً قبيل انتخابات فيدرالية في ألمانيا، تُعد تاريخية. لجهة أنها بوابة خروج المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل من المشهد السياسي بعد قرابة العقدين، وعتبة دخول مستشار جديد أو مستشارة. وذلك بالتوازي مع رغبة لدى المؤسسات، ومعظم التنظيمات الحزبية والمجتمعية في التأكيد للرأي العام والمجتمع الدولي على أن إرث ميركل سيستمر. وأن تموضع ألمانيا إلى يسار أوروبا والعالم، خيارٌ يُمليه عليها التاريخ ويدفعها نحوه المستقبل.

تموضعٌ أمامه تحديات كُبرى، تتثمل أولاً في كيفية الإبقاء على ثوابت التعددية والديمقراطية في عالم يتغير بسرعة جنونية، مُنتجاً أنماط جديدة - قديمة من الحوكمة والخطاب السياسي. وثانياً، في سُبل ترجمة صادقة وتطبيق ناجح لتلك الثوابت في الميدان، منعاً من تحولها إلى مجرد شعارات ناشزة عن الواقع تُغرّب العامة عن النخب السياسية. ثالثاً، والأهم، في الحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع الجديد في ضوء التغيرات الثقافية إثر تحول ألمانيا المضطرد، وبفعل عوامل موضوعية اقتصادية وديمغرافية، إلى دولة هجرة.

من هنا، خاطبت وزيرة الدولة الألمانية لشؤون الأسرة، كريستين لامبرخت، في كلمتها الافتتاحية، أعضاء الجوقة بأنهم "فريق ألمانيا الوطني"؛ فالغناء جماعةً يُعلي من شأن المجتمع، يمنحنا هوية، ينتمي إلى ثقافتنا كما يجلب لنا الكثير من المتعة". ومن هنا أيضاً، بدا الكورال بوجوه أعضائه متعددة الألوان والأعراق، مرآة تعكس وجه ألمانيا المعاصرة، فضلاً عن إسناد إدارته الفنية، أي قيادته، إلى امرأة هي قائدة الأوركسترا آن كوهلر.

استهل المنشدون الحفل بغناء مقطوعة للمؤلف الألماني يوهان برامز (1883-1897) بعنوان "مهرجان وتكريم". كان المؤلف قد كتب العمل استعادةً لغمرة أفراح جماهيرية، بتوحيد ألمانيا تحت الإمبراطورية القيصرية سنة 1871، وجنّد لأجله جوقة مضاعفة، ترمز كلٌّ منهما إلى الرأي والرأي الآخر، إلى زوال الخلاف وإحقاق الوفاق والاندماج بين الأفرقاء. 

موضوعة الاندماج استمرت في الفقرة الثانية، حيث أدت الجوقة سلسة أناشيد لمؤلف عصر النهضة المتأخر أورلاندو دي لاسو (1532- 1594) Orlando di Lasso  تداخلت بأعمال معاصرة لكل من الألماني فولفغانغ ريم Wolfgang Rihm والبريطاني يوناتان هافري Jonathan Harvey.

وقد خص الحفل المؤلفة الألمانية الشابة كاترين دينر Kathrin A Denner بقطعة تؤدى للمرة الأولى بعنوان "المكنون" Innen. تُحاكي حال البشرية في زمن الوباء. حيث كمّ المغنون أفواههم بأيديهم، كحركة أدائية مقلّدين ارتداء الكمامات. إلا أن الكمّ كان له أيضا غرض موسيقي تعبيريا. فبتحريك اليد بعيداً ثم قريباً من الفم أثناء الغناء، تتغير شدة الصوت انخفاضاً وارتفاعاً، ويتغير لونه أيضاً غمقاً ولمعاناً.

وإن يكن بقناع سميك وأحرف ثلاثة 3G كما بات يُرمز لشروط ارتياد الحفلات Geimpft وتعني "مُلقّح"، Genesen أي أصيب مؤخراً ثم تعافى، وGetestet ومعناها خضوعٌ لفحص إثبات براءة من حمل الفيروس، لهي فرحةٌ بعودة الحياة الموسيقية في ألمانيا. وأمل بحاضر يحاول طيّ صفحة ماضٍ موصومٍ بإرث الفاشية الثقيل، ويُعيد بناء الهوية، ليس على أسس القومية وإنما القيمية؛ ليس من نحنُ وإنما كيف نحن. هويةٌ، من المأمول أن تكون مطابقةً للخطاب، تعددية تضامنية، تعزز الثقة بالمستقبل في أوروبا والعالم.

المساهمون