"مسوخ" ديان آربوس: صور مُعلّقة على جدار العالم

"مسوخ" ديان آربوس: صور مُعلّقة على جدار العالم

27 يوليو 2021
وضعت حدّاً لحياتها في عام 1971 (روز كيلي/Getty)
+ الخط -

"معظم الناس يعيشون حياتهم وهم في ذعر من أن يمروا بتجربة مؤلمة. ولد المسوخ ومعهم تجربتهم المؤلمة. لقد اجتازوا بالفعل اختبارهم في الحياة. إنهم نبلاء".
عندما تتحدث ديان آربوس (1923-1971) عن المسوخ، فمن المعروف لنا اليوم أنّها تتحدث عن طيف واسع من الهويات الجندرية والجنسية، والبنى الفيزيائية والنفسية التي صورتها في الستينيات وأوائل السبعينيات خلال تلك الفترة، التي لم تحتفِ بالاختلاف أيّاً كان، خصوصاً بوصفه مادة للأعمال الفنية.
عملت المصورة والكاتبة الأميركية على تعميم مفهوم "التطبيع" (normalization)؛ فجسدت الأشكال التي يُنظر إليها على أنّها غير مألوفة أو غير طبيعية، وسعت إلى تحطيم الصور النمطية السائدة والمهيمنة على الثقافة الشعبية، وطورت مفهوم التصوير الفوتوغرافي، وأدرجته تحت بند "الفن الجاد" طوال مسيرتها الفنية، التي انتهت بانتحارها المؤلم، لتغادر العالم عن 48 عاماً.
ولدت ديان، نيميروف أصلاً، لوالدين يهوديين هاجرا من روسيا السوفييتية واستقرا في نيويورك، حيث امتلكا متجراً كبيراً ناجحاً في الجادة الخامسة، أمن لعائلتهم مهرباً من الكساد الكبير والأزمة المالية، فتوجه الأب إلى الرسم بعد تقاعده، ودرست الأخت الصغرى النحت، بينما كان الأخ شاعراً معروفاً ومدرّساً للغة الإنكليزية. أما ديان، التي نحّت نفسها عن بذخ عائلتها منذ الصغر، فالتحقت بمدرسة فيلدستون، ثم تزوجت في عامها الثامن عشر من آلان آربوس، وهو ممثل أميركي احتضن موهبة ديان في التصوير، وأسّسا معاً متجر تصوير، يهتم بالموضة والإعلان. نجح استديو آربوس المصغر، وشقت بعض من صورهما طريقها إلى مجلة "فوغ" الشهيرة.
في أواخر الخمسينيات، خرجت ديان من استديو التحميض، وبدأت بالتركيز على فن التصوير، بعيداً عن مشروعها التجاري مع آلان، الذي كانت قد انفصلت عنه في العام 1959؛ فدرست التصوير على يديّ مصورة الشوارع الشهيرة، ليزيت موديل. ومنها تعلمت أن تهيم في الشوارع، أن تقصد الفنادق الرخيصة، البارات، الحدائق العامة، المقابر، وغيرها من الأماكن المعتمة في نيويورك، وتلتقط صوراً لكلّ ما تقع عينها عليه مصادفة. ومن تلك البيئة الخصبة، صاغت آربوس مجموعتها الأولى التي نشرت في مجلة "أيسكواير" (1960). تتالت بعدها أعمال آربوس التي وضعتها في صفوف المصورين الأكثر أهمية في الولايات المتحدة، خلال سنوات قليلة فقط.
المثليون، الموشومون، مرتدو ثياب النساء، العالقون في زيهم المهني إلى آخر الحياة، المتنكرون في الأعياد، الأقزام، العمالقة، المتعرون، العاملون والعاملات في الجنس، لاعبو السيرك، الأزواج، الأمهات، المشوهون، الكبار في السن... كلّ هؤلاء كانوا موضوعات لكاميرا آربوس الـ"نيكون" 35 ملم.
عبر تلك الموضوعات "الوقحة"، كما وُصفت خلال آنذاك، أثارت آربوس حفيظة العقول، حتى يقال إنّ أمينة سر المكتبة في متحف الفن الحديث في نيويورك، كانت تأتي كلّ صباح لتمسح البصاق عن مجموعة الصور التي عرضتها ديان في العام 1965 تحت عنوان "الاستحواذ المعاصر".
لفهم مقاربة آربوس في التصوير، علينا إلقاء الضوء على جانبين مهمين، وهما؛ وجهة نظرها في علم النفس البشري من ناحية، وفهمها للتصوير الفوتوغرافي نفسه من ناحية أخرى. رأت آربوس الناس على أنّهم فريدون ومتشابهون في آن. يظهر هذا التضاد واضحاً في صورتها الشهيرة "التوأم المتطابقة" حيث تتطابق التفاصيل البصرية بين الأختين عبر الصورة، إلّا أنّها تختلف بشكل هائل أيضاً؛ إذ ترتدي الأختان الثياب نفسها، وتقفان في الوضعية نفسها، التوأم على اليسار تبتسم وتقترب من الأمام قليلاً، عيناها مفتوحتان على مصراعيهما. في المقابل، تبدو أختها قاتمة أو حذرة، تقف إلى الخلف قليلاً، وجفونها نصف مغمضة، تعكس ظلالاً عميقة تحت عينيها. عرّفت آربوس هذه الخاصية البشرية المتناقضة باسم "الهوية" كلمة تشير إلى كلّ من الفردية والتماثل بالنسبة لها: "لدينا جميعاً هوية. لا يمكننا تجنب ذلك. إنّها كلّ ما يتبقى لنا عندما يؤخذ منا كلّ شيء آخر". الهوية، إذاً، عند آربوس لا تعني طمس معالم الفردية، إذ إنّ هذه الأخيرة هي وقود الإنسان ووسيلته الوحيدة للاندماج مع الآخرين.
إيمانها بمفهوم الفرادة/الفردية، هو بالضبط ما دفعها إلى تكريس معظم جهودها على مشروع بورتريهات "المسوخ" كما عُرّف في وقتها، وكما أصرت ديان على تسميته، من دون خجل. صور للوجوه المشوهة، العيوب الجسدية، "الديفويات" المخجلة، خطوط العمر، الندبات، النحولة الشديدة والأوزان الثقيلة. لقطات تتخطى حدود الصورة، لتغدو وسيلة للاحتفاء بـ "الشائبة"، لكنّها أيضاً محاولات الأشخاص لإخفاء هوياتهم أو تشويهها عبر إظهار "الشائبة" الفيزيائية أو النفسية بشكل مبالغ فيه. لذا فهي تعمل على مستويين متشابكين، الأول هو الاعتراف بالاختلاف، أي تطبيعه، والثاني هو إبراز غرائبيته. أبرز الأمثلة على ذلك، هو صورتها "فتاة في ثوب لامع" التي يظهر عبرها تشويه الذات غير المبرر. في الصورة، تبتسم الفتاة بقوة، وتتوجه نحو الكاميرا. رموشها الطويلة المستعارة، أحمر الشفاه، وشعرها الممشط بشكل غريب يوحي بأنّها فتاة ليل. لكن، ما الذي تحاول الصورة قوله؟ هل تسخر الفتاة من نفسها أم أنّها جادة في استعراض نفسها ومهنتها؟ أيّاً كان الحال، يظل المعنى المركزي للصورة واحداً: هنا امرأة تحاول أن تكون أسوأ مما هي عليه. إنّ نجاة شوائبها من محاولات تشويهها يجعل انحرافها أكثر وضوحاً.
تلك الازدواجية المعقدة تضع أعمال آربوس على خيط رفيع من موضوعات إشكالية، مثل صورة الجسد وتعميم المفاهيم ومراعاة الصوابية، وتتركها عرضة للتأويل السلبي، بوصفها طريقة مبتذلة لإلقاء نظرة رومانسية على العيوب الفيزيائية، وهو الانتقاد الذي تعرضت له ديان مرات عدة، خاصة مع الدراسات الحديثة التي تناولت أعمالها بعد رحيلها بوقت طويل.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وبعيدًا عن موضوعاتها المثيرة للاهتمام والجدل، تتميز أعمال آربوس من الناحية التقنية بشكل لا لبس فيه، فتجاوزت المصورة المسافة المحددة عادة بين العدسة والمادة، لتبدو أبعادها الأربعة مثل إطارات الصور الشخصية الصغيرة القديمة. وعرفت باهتمامها الشديد بضوء النهار والظلال الطبيعية، إلى جانب استخدامها للضوء الصناعي ولتقنية الفلاش التي كانت تتطور بشكل بطيء حينها. جرّبت آربوس أنواعًا عديدة من القياسات والإطارات والعدسات، معدلة نهجها بين كلّ صورة وأخرى، فالتركيز على علاقة المادة المصورة بالإطارات والزوايا، تجعل صورها تبدو انتقائية وخيالية ومحرفة عن الواقع، كذلك قدرتها الهائلة على إعادة رسم المساحات، الطول والعرض، وبث شعور بعدم التوازن بفعل الانزياح عن الخطوط المثالية والمتناسقة، الأمر المتناقض تماماً مع الاستقرار البصري الذي تسعى إليه التشكيلات البصرية الهندسية.
"العشاء الأخير" تلك كانت كلمات ديان الأخيرة، التي خطتها على دفتر مذكراتها في السابع والعشرين من يوليو/تموز 1971، ووضعتها على مقدمة الدرج الممتد إلى الحمام العلوي في منزلها، إذ قطعت ديان رسغيها، بعد صراعها الطويل مع الاكتئاب السريري، وهو مرض عانت منه والدتها قبلها.

أثار انتحار ديان ضجة حول أعمالها التي لم تكن قد نالت ما تستحقه من اعتراف، وكما هو الحال بالنسبة لسيلفيا بلاث، لا يمكن فصل تجربة آربوس الفنية عن حادثة انتحارها المريرة، إذ سرعان ما تحولت لأسطورة غامضة، واكتسبت أعمالها شهرة عالمية واسعة، فصدرت الكتب والسير الذاتية، وكُتبت الأطروحات، وأخرجت الأفلام التي تتحدث عن شخص ديان، عن معاناتها المرضية، وعن أعمالها الفنية بوصفها تجلياً للمرض النفسي.

المساهمون