"ماء حيّ"... الصراع الأزلي على المياه

"ماء حيّ"... الصراع الأزلي على المياه

18 ابريل 2021
كلّ 5 كيلومترات، هناك بئر، رافقته مشاريع تجريبية لاستيطان البدو (العربي الجديد)
+ الخط -

"ماءٌ حيّ" (2021)، إنتاج سويسري أردني، للمخرج التشيكي بافل بوريكي، ينتظر أن يُعرض في المسابقة الوطنية ـ المحلية، في الدورة الـ52 (15 ـ 25 إبريل/ نيسان 2021) لمهرجان "رؤى الواقع"، في المدينة السويسرية نيون.

فيلمٌ ينطلق في رحلةٍ، ليعاين "أجواء الخلافات بين الحكومة الأردنية ورجال أعمال في قطاع الزراعة، ومجتمعات وادي رم، حول مصير آخر مصدر للمياه". رحلة لا تشبه كثيراً مسار أفلام وثائقية أخرى عن قضية المياه، التي بات الجميع على دراية بها. شرح وضع، واستعانة بشهادات، وببعض أرشيف.

رحلة تتمهّل عند تفاصيل شكلية، تضفي أجواء شاعرية على مسألةٍ، صارت اعتيادية. هناك صحراء وبدو وحكومة ومستثمرون. هناك رمال ووحول وأجهزة وأنابيب وآبار. هناك تذمّر، وشيء من لامبالاة، وأزمات تتزايد مخاطرها. هذا كلّه يتعلّق بالشيء الذي منه يأتي كلُّ شيء حيّ. مُكوّنات صالحة بامتيازٍ لفيلمٍ وثائقي، يُضاف إلى عشرات غيره.

لكنّ الأمر هنا مختلف. تُنبئ المشاهد الأولى بهذا الاختلاف. ماء سارح، ورمال صحراوية، وسيارة منطلقة تحت سماء لامعة بالنجوم، وأسطورة، أو ما يشبهها، تُروى على خلفية مناظر شبحية، ورمال تبدو كثلوج ممتدة في ليل طويل. يُتبع هذا بأرشيفٍ قديم لبدوٍ وغنم، على وقع عزف شجي لناي، وصوت راوٍ عن حياة في صحراء بدو، بدأت بلا ماء، إلى أنْ جاء زائرٌ مهمّ للصيد فيها. شيخ البدو، الذي سأله الملك حسين في زيارته تلك (1960) أنْ "يطلب أيّ شيء"، كمكافأة له على مساعدته في الصيد، اكتفى بطلبٍ يحقّق مصلحة جماعية: "أحبّ أنْ يكون هنا ماء". من هنا، بدأت الحكاية. وبدأ حفر الآبار.

كلّ 5 كيلومترات، هناك بئر، رافقته مشاريع تجريبية لاستيطان البدو، ثم مشاريع زراعية. لكنّ الفيلم لا يتابع، في بنائه السردي، سيراً منتظماً على خطٍّ مستقيم. في رحلته الميدانية في "وادي رم"، وفي ما يحيط به، أو يبتعد عنه (العقبة مثلاً)، يقدّم عرضاً مُكثّفاً وموجزاً عن أحوال بدو، يصارعون اليوم للحصول على احتياجاتهم الأساسية، بعد نفاد الطبقات الجوفية السطحية من المياه.

يكشف سوء الاستخدام، والظروف البيئية، واللجوء إلى طبقات جوفية عميقة في إحدى أكثر الدول فقراً بالمياه. الآبار استخدمت لتلبية حاجات سكان المدن، بأعدادهم المتزايدة، ولريّ مزارع في الصحراء، أنشأها مستثمرون ذوو نفوذ. استنفاد مصادر المياه، والسلوك الأنانيّ للناس في استخدامها، تُضاف إليهما التغيّرات المناخية وشحّ الأمطار، هذا كلّه وصل بالوضع إلى حدّ خطر.

في الشهادات، التي يحفل بها أيّ فيلم وثائقي عن قضية ما، يستخدم المخرج أسلوباً خاصّاً. يتمّ الاهتمام بالكلام، لا بوجه صاحبه. يلتقط عبارات، بعضها وجيز، وبعضها الآخر أقلّ اختصاراً، مُرفقاً إياه بصُوَر دالّة. أصوات لا تظهر وجوهها إلاّ نادراً، لعلها خشية من هؤلاء، ولعله خيار جمالي للفيلم. يُسمع مثلاّ خطابٌ (للملك؟) عن الأردن، الذي يستقبل 600 ألف لاجئ سوري، ما يُشكّل استنزافاً للموارد المحدودة أصلاً

صوتٌ آخر يتساءل عن جدوى "استخدام مياه جيدة لسَقْي مزروعات في صحراء". وبدلاً من تكرار حديثٍ عن استغلالٍ سيئ للمياه، تمرّ مَشاهد مدنٍ تنعم بها: بنايات عالية، وخزانات مياه في كلّ مكان، ونباتات وأشجار وبحيرات في ساحاتها. مَشاهد في الصحراء لبدو غاضبين من إهمال المسؤولين، ومن عدم قدرتهم، أو السماح لهم بحفر آبار. متذمّرون من ضرائب ترتفع، وماء ينقص. بدلاً من التحقيق عن هؤلاء المستثمرين، الذي استنفدوا مياه الصحراء، يُبدي الفيلم ما غيّروه من عادات، فينطلق في الأمكنة.

في بلدة "مدوّرة" مثلاً، انسحبت شركات من ثلاث مزارع بعد نفاد المياه، تاركة السكّان لمصيرهم. شركات تحضر مع معدّاتها وعمّالها، ولا تهتمّ كثيراً بتشغيل المحليين. هؤلاء انقطعوا عن بقية الأنحاء، بسبب توقّف وسائل المواصلات، بعد مغادرة الشركة وعمّالها وبضائعها.

أمثلة أخرى عن نزاعات متصاعدة على المياه، تعطي صورة عن سياسات وتغيّرات مناخ، مُقدّمة بذكاءٍ، وبجمالٍ أيضاً. جمالٌ في فيلم حول البيئة، مستوى فني يبدي إحساساً عميقاً بالصحراء. موطن جمالها في مناظر بديعة (تصوير المخرج نفسه). مشاهِد كثيرة صامتة، لا ضجيج فيها إلاّ لمحرّكاتٍ تحفر، أو سيارة تهدر، أو ناي يحنو، أو عصفور يزقزق، أو أوراق تهتزّ بريحٍ خفيفة، أو مياه تجري أو تهطل. كلّ التفكير مُنصبٌّ على المياه، وعلى علاقتها مع الإنسان. هذا ربطٌ بين جريانها وحركة الرمال، وبين تقاطع مجراها والخطوط المتقاطعة لدواليب، تركت أثراً سيُمحى على رمال الصحراء. حتّى المدينة صوّرها بوريكي بما يليق بها: كتلٌ إسمنتية جرداء، تجري مياه في بحيراتها، وترتفع خزّانات على أسطحها. الصحراء غيّرت بما لا يليق بها، فبات جزء منها مزارع خضراء محاطة بالرمال. الصُوَر شعرية، حتّى لإعداد التربة للحفر، ولأجهزة تبدو زواياها بوجه آخر، ولعنزات ظريفات تحدّق بعيون بريئة بهذا الشيء الذي تُحدّق به. هذا كلّه لا حول ولا وجود له لولا المياه، مياه الحياة.

المساهمون