"لا تنظر إلى الأعلى"... قبل أن نخسر كل شيء

"لا تنظر إلى الأعلى"... قبل أن نخسر كل شيء

13 يناير 2022
العلم في مواجهة الجهل... الشغب في مواجهة الأمل (نتفليكس)
+ الخط -

لا جدوى من معاداة الطبيعة. يدرك الإنسان هذا. لكن الطبيعة لها سلوك وأسرار. التكيف معها، والمحاباة بوسائل ناجعة تحقق التوازن مطلب وجودي. التكنولوجيا المساهم الأكبر في هذا التوازن. والدول صاحبة الامتياز والعلوم تملك في يدها صولجان زيوس. وعليه، تقرر شكل هذه المحاباة.
"لا تنظر إلى الأعلى"، عنوان حركة مناهضة، وليس عنوانا لفيلم فحسب. العلم في مواجهة الجهل. الشغب في مواجهة الأمل. والجمهوري في مواجهة الديمقراطي. كلها سياقات وتضادات.

يعرف آدم ماكاي كيف يسحب هذه المتناقضات داخل كاميرته. وإن كان يكرر ما يستمتع بصناعته دائماً، كما في فيلمه "ذا بيغ شورت" (2015)؛ فالموضوعات شكلية دائمًا، والإشكالية مربط الفرس. هنا نيزك ضخم سيدمر الكرة الأرضية بعد أشهر. وعلى مكتشف الحدث، الطالبة الجامعية كيت ديبياسكي (جينيفر لورانس)، وأستاذها في جامعة ميشيغين البروفيسور راندل ميندي (ليوناردو ديكابريو)، التوثيق والتوضيح والتدبير. هذه قصة شكلية. نمطية ومكررة في السينما. الإشكالية في خط الأحداث. صراع البطلين مع المسؤولين النافذين والإعلاميين ومع أنفسهم. إحدى حلقات هذه الإشكالية تكمن في السخرية اللاذعة من شخصيات كرتونية من قبل قريناتها. فوضى خلّاقة في زمن ليس مثالياً إلا في نظر النُخب، والشعب الساذج كما يقول دوركهايم "يسير في موجة الجموع كالحصاة المتدحرجة تلم معها كل شيء". لكن في عالم السياسة، لا بد من انقسام. لا بد من كذب وصدق، والناجي ليس هو الشعب، حتى وإن نال نصيبه في الفيلم.
المواجهة بين راديكالية العلم والسياسة مواجهة خطيرة وحساسة. الحسم فيها للأقوى وليس للأصلح. هذه نتيجة تحاول أن تكون واقعية من منظور مكاي، كحال الشخصيات وتطورها. والفساد المتفشي جزء من هذه الواقعية. هو ليس مرتبطًا بجشع شركات التكنولوجيا فحسب، مثلما رأينا في دور بيتر (الممثل مارك ريلانس)، رئيس مجموعة "باش" للاتصالات. وهو نموذج عن الذراع المادي للجمهوريين في الولايات المتحدة. أي يملك في يده صولجان زيوس في المسائل الحساسة العالمية، وليس فقط الداخلية (كالانتخابات الرئاسية).

الفساد لا يتجنب مفهومه الأخلاقي، بقدر ما يحابيه وجدانيًا، في عقل البروفسور المكتئب، المنهزم والقلق. لتكون منصات الإعلام بوابته للملذات وللاستمتاع بسلطة التأليب. تدوير الرأي والتأثير الأخلاقي على الشعب. توزان فيه نزوة امرأة إعلامية (كيت بلانشيت بدور بري)، تسيطر على حياته ومبادئه لمدة.


لغة العصر حاضرة بقوة. كأننا نعيد حديث كونديرا في روايته "البطء" (1995): "سيدي العزيز، إننا لا نختار العصر الذي نولد فيه، فنحن جميعًا نحيا تحت عدسات الكاميرا، وهو ما أصبح الآن فصاعدًا جزءًا من الشرط الإنساني، حتى عندما نشن حروبًا، نخوضها تحت عدسات الكاميرا. وعندما نريد أن نحتج على شيء ما، لا نوفق في سماع صوتنا من غير كاميرا".

والحقيقة أن منصات التواصل الاجتماعي لها اليد الطولى في تهميش المتغيرات الحقيقية، لا توثيقها. هذه نتيجة أخرى يراد وسمها أيضًا في فيلم مكاي. فالحياة الجدية والمواضيع المصيرية لكبار العلم والدولة، لا للشعوب المسحوقة ذهنيًا. المهتمة بطلاق مغنين مراهقين أكثر من سقوط مذنب. هذا المذنب في واقع سينمائي مشكلة خارجية، وفي واقع البشرية احتباس حراري وتغير مناخي سينهي الوجود البشري. هي ذي رسالة الفيلم. دعوة لليقظة والوعي. هجاء لسلوكيات القادة والإعلاميين. انجراف نحو الطاقة البشرية التي تملك كل الإمكانيات لمواجهة مخاطر الطبيعة والتي سببها الأول الإنسان. الإنسان المتبجح بإمكانياته العلمية والتقنية، فنسي وجوده وضميره واستعاض عن نجاته بالذهب والمعادن النفيسة على ظهر المذنب، فتنتهي البشرية.
تتنبأ شركة باش بموت ميندي وحيدًا، وهذا ما لم يحصل. بينما تنجح توقعاتها بموت رئيسة أميركا جاني أورليان (ميريل ستريب)، الترامبية الشكل والمقصد، على يد مخلوق (البرونيتروك) الفضائي.

هذه مقاربة مقصودة، يتركنا مكاي لنختبر فيها معضلات العصر، ونفسرها بناءً على ما نتمتع به من خبرات علمية وصلت حدودًا واسعة. هل التكنولوجيا جيدة أم سيئة لخدمة البشرية عند الأزمات؟ هل هي نعمة أم نقمة؟ مطلقة أم محدودة؟

أسئلة عديدة متراكمة، في عمل متراكم، يركز على قضايا عديدة، منها ما يسطّح الانفعال الوجداني في نسيج المجتمع الأميركي، ومنها ما يشدد على تعويم الفلسفات الرأسمالية وطرحها كنتيجة حتمية، متغلغلة في الصميم السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة الأميركية. وخير دليل على ذلك، ما نراه مكتوبًا على حجرات التبريد العميق في المركبة الرئاسية الناجية في الكوكب الجديد (مصرف إنتر بنك – تكسيكون للنفط – جماعة "فاندال" للضغط).

المساهمون