"لا تتردّد" لشريف كورفر: عداء صامت في أجواء متوترة وقلقة

"لا تتردّد" لشريف كورفر: عداء صامت في أجواء متوترة وقلقة

19 نوفمبر 2021
"لا تتردّد" لشريف كورفر: صدمة الواقع وعنفه (الملف الصحفي)
+ الخط -

 

شريف كورفر مخرج هولندي، وُلِد في فنزويلا (7 ديسمبر/كانون الأول 1982) ونشأ في هولندا حيث درس السينما. فيلمه الروائي الطويل الأول، "مُتسلّل" (2014)، عُرض في مهرجانات كبرى، منها تورنتو. فيلمه الثاني، "لا تتردّد" (2021)، اختارته هولندا للمشاركة في التصفيات الأولى لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم دولي، في النسخة الـ94، المُقامة في 27 مارس/ آذار 2022، بعد مُشاركته مؤخّراً في "آفاق مفتوحة"، في الدورة الـ62 (4 ـ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) لـ"مهرجان سالونيك السينمائي الدولي".

النقاش الذي جرى بعد عرضه في سالونيك، بحضور الممثل جو برويرز، أظهر جمهوراً متشوّقاً لسماع خفايا فيلمٍ، تدور أحداثه في منطقة في الشرق الأوسط، المليئة مناطقه بالحروب. فصيلة من الجنود الهولنديين كُلِّفت بمهمة سلام فيها. هذا ما كان يُفترض بها تنفيذه. لكنّ الأمور، كما يحصل دائماً في هذه المنطقة المُشتعلة من العالم، تنجرف إلى مناحٍ أخرى، ليس السلام أحدها. على الأقلّ، حالياً، مع الوجود الأجنبي. الفصيلة الهولندية اضطرّت إلى البقاء في منطقة جبلية معزولة، يُفترض بها أنْ تقع في سورية، بعد تعطّل آليّتيها العسكريتين (شاحنة ومُصفّحة). "قطعة" حربية مُكلِفة، لا يجوز تركها في المكان. لذا، على الجنود أنْ ينتظروا وصول العون لسحب الآليتين، ولسحبهم هم أيضاً.

هذا فيلم يرصد حالة، أيْ وضع معيّن لشخصيات متواجدة في مكان واحد، في زمن محدّد، يواجهها حدث طارئ، يقود إلى أحداث أخرى. العطل حدث في زمان ومكان غير مناسبين. في أجواء أقلّ ما يقال عنها إنّها غير مريحة. منطقة مكشوفة، مُحاطة بمرتفعات وجبال تدعو إلى الحذر والترقّب. الجنود مستعدون عند أقلّ حركة للتصويب على أيّ هدف متحرّك. أول ضحية ستكون معزة فتى محلي (عمر علوان)، سيُعطى تعويضاً مادياً عنها لن يُرضيه. يأخذ التعويض من دون شكر، ويُلحّ باللغة العربية طالباً المزيد.

تصعيد آخر يحصل، مع اضطرار قائد الفصيلة إلى مغادرة المكان مع جنوده في مهمّة طارئة. يبقى 3 جنود لحماية الآليتين العسكريتين. 3 جنود شباب، سيكون عليهم الانتظار والصبر ومواجهة الفتى كلّ زمن السرد (90 دقيقة). سيبقى الفتى حولهم، كأنّه شوكة في الحلق. ستتصاعد المواجهة معه، مُحدثةً نتائج ستترك آثارها عليهم مدى الحياة.

تمكّن شريف كورفر من خلق أجواء توتّر وترقّب، حتّى في أوقات استمتاع الجنود بالرقص والغناء، لتمرير الوقت. استمتاع مُفتعل، كأنّه خلاص من هواجس، ونسيان مخاطر. الفيلم مبنيٌّ على أجواء التوتّر هذه، وعلى إثارة شعور دائمٍ بأنّ شيئاً ما سيحدث في أي لحظة، وبأنّ الزمن توقّف بانتظار حدثٍ ما. ساهمت الموسيقى (يوهو نورْمِلا وإيلاّ فان دِرْ فاودي)، حادّة الوقع، وتعابير الجنود وحركاتهم المشحونة بعصبية وقلق، بعد أنّ كانت لاهية مطمئنة، في تغذية هذا الشعور. ترافق هذا مع اختيار موقع تصوير فريد بغرابته (اليونان، في طبيعة مشابهة لسورية. تصوير: نديم كارْلْسِن)، فكان له أثر كبير على مجريات السرد.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

في هذه الطبيعة القاسية، حيث تُخفي الجبال ما وراءها، والشمس حارقة، والمكان فارغ من أي مخلوق، تجلّت عداوة مُقلقة. كأنّ المكان مليءٌ بعشرات العيون التي تحدّق عن بعد، وتترصّد من دون أنْ تظهر. كأنّ على هؤلاء الجنود الشباب الثلاثة ترقّب وصول كلّ أعداء الأرض، وحدوث كلّ الأخطار.

هذا القلق أحد المحاور الرئيسية في "لا تتردّد". لكنّ هؤلاء الشباب "البريئين"، الذين يظنّون أنّهم في مهمّة سلمية، لا يتوقّعون في البدء مخاطر كثيرة. مع هذا الإحساس بالترقّب، يتصرّفون بخفّة لا تلبث الأحداث أنْ تقضي عليها، ليتصاعد التوتر والخوف تدريجياً، ويُدركوا في النهاية أنّه رُمِيَ بهم في مكان لا يعرفون شيئاً عنه، بين سكّان لا ينظرون إليهم بالترحيب والعرفان، وبين أعداء هم هنا لكنّهم غائبون عن أنظارهم، وليكتشفوا أنّ مهمتهم ليست حفظ السلام، وليست على هذه البساطة التي يظنّونها.

يبدي كورفر هذه البراءة الأولية في لقطات سريعة لبطله الرئيسي إيريك (جو برويرز)، أحد الجنود الـ3. شاب عادي، يُحبّ الموسيقى، ويُقيم مع والديه قبل تكليفه بهذه المهمّة في الشرق الأوسط. تحوّلات شخصيته في زمن قصير، مع أحداث قليلة، مُفزعة ومؤسفة. رغم أنّه أكثر طيبة بين زملائه، وأكثر تقرّباً وتفهّماً ولُطفاً مع هذا الصبي الضحية. يحاول التحدّث إليه، والتفاهم معه، من دون تجاوب. لا ينجح حتّى في إقناعه بقول اسمه، ولهذا دلالة واضحة في الفيلم، إذْ يبقى الفتى مجهول الهوية بالنسبة إليهم، كما باقي السكّان. سوء التفاهم والحذر بين الطرفين يظلّ سائداً، فالصبي ينظر إليهم كأعداء حتّى النهاية، ويُهدّدهم ويدعوهم إلى الخروج من بلده. هذه مفاجأة، بل صدمة، تدفع إلى تساؤلات ساذجة. "لماذا يتعاملون معنا هكذا، ونحن جئنا لنجدتهم؟" معضلة يُبرزها "لا تتردّد" جيداً، مع إبرازه آثارها الكارثية على الطرفين.

بمحاولته الواضحة إيجاد توازن في المواقف، ينجح الفيلم في إبراز مخاطر وصول جنود شباب إلى مكان أجنبي، لا يفقهون شيئاً عنه وعن أصحابه وتاريخه، وحتّى حاضره. جنود حين يعودون جسدياً إلى بلدهم، تبقى أذهانهم هناك. من دون تحديد مكان الأحداث، يمكن التكهّن بأنها تجري في سورية، بالإضافة إلى الطبيعة، وتحدّث الفتى باللغة العربية.

خطرت فكرة الفيلم في بال شريف كورفر بعد قراءته مقالة عن جنود هولنديين، ذهبوا من أفغانستان إلى اليونان في إجازة ليومين. أوحت له صُورهم، وهم يلهون في إجازتهم، بالفكرة. الممثل جو برويرز قال، في لقائه جمهور سالونيك، إنّه أحسّ بتأديته الدور بقسوة رمي جنود شباب هكذا في مكان لا يعرفونه، وكيف يُمكن أنْ تحدث صدمتهم بسبب التناقض بين ما يعتقدونه عن مهمّتهم، وما يلمسونه يومياً من نظرات السكّان وأفعالهم.

"لا تتردّد" ليس فيلماً عن الحرب كحرب، بل عن أشياء أخرى: عن جنود لا يشاهدون العدو، مع أنّه هنا؛ عن زمن متوقّف، وعن قلق وسوء تفاهم وعلاقة بين محتلّ وصاحب أرض وجنود مصدومين لعدم سماع كلمة شكر واحدة، وعن تساؤلات تثير فيهم شعوراً بالاضطراب والارتباك: "أنا هنا لمساعدتك، فلماذا لا تشكرني؟".

المساهمون