"قلْتلّك خلص" لإيلي خليفة: اختبارٌ سينمائي يُمتّع المُشاهدة

"قلْتلّك خلص" لإيلي خليفة: اختبارٌ سينمائي يُمتّع المُشاهدة

14 مايو 2021
راوية الشابّ وإيلي خليفة: بحثٌ وصدمات (الملف الصحافي لفيلم "قلْتلّك خلص")
+ الخط -

اختبارٌ سينمائيّ جديدٌ يخوضه اللبناني إيلي خليفة، بإنجازه "قلْتلّك خلص" (2020). أسبابٌ عدّة تدفعه إلى هذا الاختبار، لكنّ أبرزها كامنٌ في صعوبة الإنتاج أو التمويل. قرار البدء بتنفيذ ما يصبو إليه يحثّه على عدم انتظار إنتاجٍ. تحويل سببٍ كهذا إلى اختبار سينمائيّ، تمرينٌ على تطويع الصعوبات والتحايل عليها، بهدف تحقيق المُبتغى. سرد حكاية مُخرجٍ يقلق إزاء عدم تمكّنه من إنهاء سيناريو جديد له، ويتخبّط في علاقاته الواقعية والمتخيّلة في آن واحدٍ، تفصيلٌ يُبنى عليه اشتغال يتحرّر من ثقل الإنتاج، ويجهد في تشكيل متتاليات بصرية عن أفرادٍ وحطام ووقائع وانكساراتٍ.

يومٌ واحد للتصوير كلّ شهر، و3 أسابيع لتحضير هذا اليوم، ما يُتيح إدخال تعديلاتٍ أو إضافاتٍ على السيناريو. يتطلّب إنهاء تصوير كهذا 20 شهراً، أي 20 أسبوعاً للتصوير ("العربي الجديد"، 11 مايو/ أيار 2020). هكذا يُحدِّد إيلي خليفة اختباره السينمائي الجديد. له النصّ والإخراج، وله دور المخرج في فيلمٍ يُخرجه هو، مُتعاوناً مع ممثلات وممثلين، بعضهم أكثر حضوراً في السينما والتلفزيون من البعض الآخر. فريق تقني صغير، وتركيز على اشتغالٍ، يتناول جوانب من ذات فردية تواجه، وحدها، تحدّيات مهنة وحبّ وعلاقات، وتجد نفسها في مواجهة شخصياتٍ تخرج من تفكير وتخيّلات إلى واقعٍ، لحثّه على خلاصها من اضطراباته.

الحدّ الفاصل بين متخيّل وواقع واهٍ جداً. وفرة الشخصيات تُربك المُشاهدين، قبل انكشاف ما يُزيل ارتباكاتهم. بحثه عن خاتمةٍ لسيناريو غير مُكتمل يترافق، في آنٍ واحدٍ، مع بحثه عن حبيبةٍ (روان حلاوي) يخنقها سلوكه وقلقه وبحثه عن اكتمال المشروع. التداخل بين أناسٍ واقعيين وشخصيات متخيّلة، في سردٍ يمتدّ من أحاسيس إلى تفاصيل ووقائع، يصنع مناخاً من فوضى العيش، وهلوسات روحٍ ونفسٍ، ومشاعر خوف وتوهان. في التداخل هذا، يلهث المخرج في بحثه عن منفذٍ واحدٍ (لعلّه يوهم من يُتابع حكايته ببحثه عن منفذٍ واحد فقط)، لكنّ الدروب تبدو مغلقة، والخاتمة تكشف غير المتوقّع، رغم إيحاء سابقٍ عليها بقليل.

في السرد، يُصوِّر إيلي خليفة لحظاتٍ واقعية ببساطة، تحمل عمقاً انتقادياً ساخراً. علاقته بالمنتج الأساسيّ (جورج كعدي) إحدى تلك اللحظات، المفعمة بدلالاتٍ مستلّة من حقائق، رغم أنّ بعض الإنتاج، اللبناني والعربي، مستقلّ عن حالةٍ استهلاكية تجارية غالبة. النزاع بين رغبات مخرج وطلبات مُنتج جزءٌ من المهنة السينمائية. عرض فيلمٍ للمخرج في صفّ مدرسيّ، وعلاقة المدير (طلال الجُردي) بالتدريس والنشاطات الثقافية والعلاقات العامة، مُثيران لضحكٍ يمتلك حسّاً انتقادياً ساخراً وقاسياً. لقاء المخرج شاباً ثرياً (الياس الزايك)، يريد خوض تجربة الإنتاج بشروطٍ محدّدة (وفرة الممثلات لرغبته في التعرّف عليهنّ)، امتدادٌ لحسّ السخرية في أفلامٍ سابقة لخليفة، بعضها قصير، كـ"تاكسي سرفيس" (1996)، الذي يُعرض أمام التلامذة. سخرية تتحدّى أقداراً ومصائر أحياناً، وتعكس بعض أسوأ الوقائع أحياناً أخرى.

لـ"قلْتلّك خلص" حكاية، تُختصر بسيرة مخرجٍ يبحث عن خاتمةٍ للسيناريو، كبحثه عن حبيبةٍ وخلاصٍ "هارِبَين" منه. هذا تفصيلٌ. الفيلم يتوقّف عند حالاتٍ وانفعالاتٍ ومسائل، تتراكم على فردٍ، وتضعه في مآزق وانكساراتٍ وخيبات. الآخرون ـ شخصياتٍ مُتخيّلة في السيناريو غير المُكتمل، وأخرى واقعية ـ يعانون ضغوطاً يمارسها عليهم من دون قصدٍ، فهاجسه متمحور أساساً على استعادة حبيبة، وبلوغ خاتمة، والحصول على خلاص. المشهد الأخير يكشف كلّ شيءٍ: أيكون هذا الـ"كلّ شيء" وهماً وخيالاً، أو واقعاً يؤدّي إلى ما يظهر في ختام "قلْتلّك خلص"؟

 

 

منذ البداية، يُقدِّم إيلي خليفة شخصية المخرج في حالةِ بحثٍ وركضٍ. ينادي صديقاً له (زياد صعيبي) "يختبئ" منه في حقلٍ. يعثر عليه، فيُفهم من كلامهما ما يؤسِّس المسار الدرامي اللاحق (100 دقيقة). التصوير (فادي يبرودي) يُشير إلى بساطةٍ في التقاط المطلوب. التمعّن في التفاصيل يؤكّد أنّ تنفيذ المطلوب مدخلٌ إلى تعرية وتفكيك، يساهم التوليف (ساندرا فتّي) في إكمالهما. القصص المروية عبر راويةٍ (ماريلين نعمان) وشخصياتٍ تُكمِل سيرة المخرج وارتباكاته. كاميرا تتجوّل في أمكنةٍ ونفوسٍ، وقصصٍ تُروى عن أناسٍ وانفعالاتٍ وعلاقاتٍ، وهذا كلّه يُختَزل بشخصية المخرج نفسه، وبما يعانيه ويعيشه ويواجهه.

الأفلام القصيرة، التي يُنجزها إيلي خليفة منذ منتصف تسعينيات القرن الـ20 (وبعضها بمشاركة السويسري ألكسندر مونييه)، تؤسِّس عالماً سينمائياً يعكس نواة سردٍ يمزج بعض الواقع البشريّ الفرديّ بسخريةٍ لاذعة ومُضحكة، رغم قسوتها ومرارتها. البداية لـ"تاكسي سرفيس"، يليها فيلمان قصيران آخران: "شكراً ناتكس" (1998) و"فان إكسبرس" (2004). في الروائيّ، سيكون "قلْتلّك خلص" أكثر أفلامه اقتراباً منه ومن حساسيته السينمائية، رغم إخراجه سابقاً "يانوسك" (2010)، المرتكز على سلاسة قولٍ، وبساطة سردٍ، وانهماكٍ في كشف عورات بيئة ومواجع أناسٍ وأحلامهم وهواجسهم ومخاوفهم. للتجاريّ حضورٌ في سيرته المهنيّة، مع "يلّا عقبالكن" (2014)، الذي يكتفي بإخراجه، مستنداً إلى نصٍّ للمنتجة اللبنانية نيبال عرقجي، الكاتبة والممثّلة والمخرجة أيضاً. التجاريّ هنا يرتفع عن التبسيط الذي يحول دون متعة السينما، لكنّه غير معنيّ بأسلوبه في أفلامه السابقة.

مع "قلْتلّك خلص"، يستعيد إيلي خليفة مفرداته السينمائية، مكثّفاً إياها في سردٍ مبسّط وسلس، يرتكز على عمقٍ دراميّ في قراءة واقعٍ واشتغالاتٍ وأحوالٍ.

 

(*) العرض الأول لـ"قلْتلّك خلص" حاصلٌ في الدورة الـ11 لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية"، المُقامة افتراضياً بين 6 و11 أبريل/ نيسان 2021، علماً أنه نال جائزة مرحلة ما بعد الإنتاج في فئة الصوت، في الدورة الـ9 (4 ـ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) للمهرجان نفسه.

المساهمون