"قبل العرض"... عن الرقابة في السينما التونسية

"قبل العرض"... عن الرقابة في السينما التونسية

31 أكتوبر 2021
المخرج التونسي رضا الباهي (Malmo Arab Film Festival)
+ الخط -

لا شيء أشد وقعاً وألماً على المخرج السينمائي من مقصّ الرقيب، خصوصاً إذا كان يعيش في عالم ثالث، أو ينتمي إلى دولة شمولية لا تؤمن بحرية التعبير السينمائي، وتخاف من الصورة وأثرها على الشعوب. الأمر ربما يكون أخفّ عليه لو اقتُطِعت لقطات، أو حُذِفت مشاهد محدودة من أيّ فيلم، إذْ يمكن لملمة المعنى وتطبيبه وفق سياق فني معين، بعد مواجهة مباشرة بين المقصّ والمونتاج. لكن هذا يوجع أكثر، ويمكن حتّى أن يُصيب المخرج بحالةٍ مرضية، تُجبره على الانسحاب من المشهد، إنْ لم يحدث له شيء آخر، كأنْ يُصادر فيلمه، ويُقضى عليه كلّياً، كما لو أنّه لم يُصنع أبداً.

حالة كهذه تمحو جهد فريق كامل من صنّاع الفيلم، ويُصادر فيها حقّ الجمهور في المُشاهدة، والحكم على ما فيه بأنفسهم، قبولاً أو رفضاً. عندها، يتضاعف الألم، وتتوزّع حرقته على الجميع، بسبب حكم موظّفٍ في وزارة الداخلية، لا يعرف شيئاً عن ماهية الفن، أو مثقفٍ في وزارة الثقافة، ينتقم، أو يتقرّب من جهة ما. غاية كلّ طرف في هذا كلّه خدمة السياسي، وتعبيد الطريق له ليستمرّ. لم تسلم الجغرافيا العربية من جبروت هذا المقصّ، منذ انطلاق السينما فيها. أحداث وقصص توثّق هذه المعطيات، مع طمس بعضها كأنّه لم يحدث، بسبب التناسي وتقدّم الزمن وقوة الرقيب وبطشه، الذي يسيطر على الخبر وانتشاره.

مؤخّراً، عرضت "الجزيرة الوثائقية" فيلماً وثائقياً تونسياً بعنوان "قبل العرض" (2018، 48 دقيقة)، لبلال المازني، أعادت من خلاله فتح ملف الرقابة على الأفلام في السينما التونسية، بمشاركة مخرجين مهمّين، كانوا ضحايا آلة القمع في عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بالإضافة إلى ممارسي هذه السلطة، وهم أيضاً ضحايا لجانٍ ينتمون إليها، انطلاقاً من منظومة قمعية شاملة، تأمرهم فينفّذون الأوامر صاغرين. هؤلاء يمثّلون جهات سيادية عدّة، ويلتقون تحت قبة واحدة للحكم على الأفلام، بحذف ما فيها، أو بمصادرتها.

استضاف الفيلم ثلاثة مخرجين تونسيين مخضرمين، عاصروا مراحل سياسية عدّة، وتعرّضوا لتحرّشات أمنية مختلفة بسبب أفلامهم، ومورست عليهم رقابة وتعسف: عبد اللطيف بن عمار (1943)، ورضا الباهي (1947)، والنوري بوزيد (1945). نكأ الفيلم جراحهم القديمة، التي لم يشفوا منها بعد، إذْ لا تزال تحفر عميقاً في وجدانهم، وهذا عكسوه بطريقة كلامهم وتأثّرهم وعودتهم إلى تلك الفترة المهمّة.

حافظت شخصية الموظّف السابق في لجنة مراقبة الأفلام، المعروف بالعم حسني في الفيلم، على الانسجام والخطّ السردي، لكونه المولِّد الأول للأحداث، ونقطة الارتكاز التي اعتمد عليها المخرج، الذي صنع منه قصة مؤسَّسة على عناصر درامية، فيها فرجة وتشويق، مستعيناً بعناصر بناء الفيلم الروائي، المعتمد عادة على بداية وعرض وحبكة وعقدة ونهاية، ومُطعِّماً إياها بمشاهد تمثيلية لفهم "الثيمة" بشكل أوسع. ينطلق العم حسني، صاحب الشارب واللحية الحليقة والمُحبّ للسينما وعوالمها، في رحلة البحث من تصليح آلة عرض سينمائي 35 ملم. يتأبّط حقيبة جلدية صغيرة، رمادية اللون، يُسمّيها "صندوق العجب"، لأنّه يضع فيها كلّ ما اقتطعه، في السنوات الماضية التي عمل فيها رقيباً، من لقطات أفلام فرنسية وإيطالية وبريطانية وعربية وتونسية، وغيرها، التي مُنعت في تونس. يريد جمعها وتركيبها في شريط واحد، يضعه في بكرة، ليشاهد اللقطات كلّها مجدّداً. كما يتواجه العم حسني، في هذه الرحلة، مع مخرجين تعرّضوا للرقابة، عائداً إلى الماضي بكلّ ذكرياته، ليقف على التفاصيل التي تركتها يد الرقيب على المخرجين، بعد مرور أعوامٍ طويلة، احترقوا فيها بنيران السلطة ونفوذها في مصادرة حقّهم في التعبير بالطريقة التي يجدونها مناسبة.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

نفض "قبل العرض" الغبار عن تجارب سينمائية تونسية، سلّط عليها الرقيب سيف انتقامه: "سجنان" (1974، 110 دقائق لعبد اللطيف بن عمار، وذلك بعد عرضه في "أيام قرطاج السينمائية"، وحصوله على "التانيت الفضي). رأت السلطة السياسية أنّه يُشكّل خطراً عليها، لتقديمه سردية مختلفة عن السائد، مُظهراً أنّ الثورة التونسية شاركت فيها شرائح تونسية كثيرة، وأنّ المقاومة نفّذها العمّال والفقراء والفلاحون والبسطاء. هذه معطيات لا تستسيغها السلطة، التي تريد إظهار الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة البطل الوحيد والثوري، الذي لا منافس له. وأي محاولة لإظهار غير ذلك انتقاص منه. أكثر من هذا، يجب الانسجام مع الرواية الرسمية، التي ترى أنّ الاستقلال لم يساهم فيه ولم يصنعه سوى الحبيب بورقيبة، لهذا "رُمِي" الفيلم في النسيان. وبحسب رواية بن عمار، لم تتوقّف الرقابة عند هذا الفيلم فقط، فهو كتب بعده سيناريو عن البطل والمناضل التونسي محمد الدغباجي، لكنّ لجنة القراءة رفضته للحجّة نفسها: لا بطل في تونس سوى بورقيبة. يضيف بن عمار أنّه أنجز فيلماً وثائقياً آخر عن عملية ترميم مسجد القيروان، لكنّ لجنة المراقبة لم تعجبها الموسيقى المُصاحبة، فطلبت تغييرها، ورفضت عرضه.

رضا الباهي عانى، هو الآخر، من مقصّ الرقيب، بداية مع "عتبات ممنوعة" (1972، 31 دقيقة)، المُشارك في "مهرجان السينما الفرانكفونية في بيروت" (الجائزة الكبرى)، وفي "أيام قرطاج السينمائية". لكنّه فوجئ بمنعه من العرض في قاعات السينما. ما يحزّ في نفسه إلى اليوم، بحسب مداخلته في "قبل العرض" أنّ المنع جاء من المفكر والكاتب محمود المسعدي، وزير للثقافة حينها (1973 ـ 1976). كما اكتشف لاحقاً أنّ الكاتب التيجاني زليلة، مدير قسم الرقابة ورئيس قسم السينما، له المنهج نفسه في الرقابة والمنع، رغم انتمائه إلى فئة الكتّاب والمثقفين، وله تجارب إبداعية وكتابات ومؤلّفات، يرى الباهي أنّها مُشاكسة، لكنّ أحداً لم يراقبها.
يضيف الباهي أنّه قدّم بعدها سيناريو "شمس الضباع" إلى لجنة القراءة في وزارة الثقافة، فرُمِيَ في سلّة المهملات. لكنْ، صودف حينها وجود مدير الـ"سينماتك" الفرنسية في المكتب، الذي أخذه من السلة، ولا زال يحتفظ به في المركز إلى اليوم. يعود سبب المنع إلى وجود مشهد سائحة ألمانية تقدّم المال لتونسيّ فقير، فيما يقوم رفيقها بتصويرها؛ بالإضافة إلى مشهد شخصية وزير السياحة وهو يُدشّن فندقاً، رفقة مسؤولين يلتفّون حول طاولة مليئة بالحلويات والمشروبات، فيما ينظر إليهم الفقراء من خلف السياج بتذلّل واضح.

حينها، سعت السلطة التونسية إلى منع تصوير المشروع في المغرب، من دون أنْ يُستَجَاب لها، فصُوِّر "شمس الضباع" (1977، 100 دقيقة) وشارك في مهرجانات سينمائية عدّة، كـ"أيام قرطاج السينمائية" عام 1978، وكانت حينها الممثلة المصرية فاتن حمامة رئيسة لجنة التحكيم. كُشِف لرضا الباهي، بعد انتهاء الدورة وعدم حصول الفيلم على أي جائزة، أنّ لجنة التحكيم تلقّت أوامر تقضي باعتبار الفيلم غير وموجود وغير مشارك، ليُمنع عرضه بعدها. عاش رضا الباهي تبعات المنع في مساره المهني والدراسة، خصوصاً أنّ السلطة قطعت عليه منحة دراسته في فرنسا.

النوري بوزيد، دارس السينما في بلجيكا (1968 ـ 1972)، لم يسلم هو أيضاً من مقصّ الرقيب، إذْ له صولات وجولات مع السلطة بخصوص "صفائح ذهب" (1989، 104 دقيقة)، المُشارك في مهرجان "كانّ" السينمائي. شاهده رئيس لجنة الرقابة التيجاني زليلة، وقال عنه إنّه فيلم قنبلة. بحسب بوزيد، رفعته اللجنة إلى سكرتير الوزير، الذي رفعه إلى رئيس الوزراء، ليصل أخيراً إلى مكتب الرئيس، الذي أعاده إلى وزارة الداخلية، لتبدأ بعدها رحلة القصّ، مع حذف 27 ثانية منه: مشهد شرطي يبول في فمّ مناضل يساري أثناء التعذيب. رفضت وزارة الداخلية المشهد بحجة أنّه "تدنيس" على الشرطة، لكن بوزيد قال إنّ الأمر حصل فعلياً، وحدث له شخصيا. يروي الفيلم قصّة جرت وقائعها بعد ثلاثين عاماً على استقلال تونس، أي عام 1986، بطلها المثقف يوسف سلطان (45 عاماً)، ابن جيل عاش الأيديولوجيا المتنقّلة بين الشرق والغرب، والعاجزة عن تحقيق شيء، لهذا بدأ النضال الشيوعي لتحقيق مشروعه السياسي.

واجه المخرجان عبد اللطيف بن عمار والنوري بوزيد، في نهاية "قبل العرض"، العم حسني، المحتفظ إلى الآن بالمشاهد المحذوفة، التي جمعها وركّبها في شريط واحد، وأدار البكرة، وبدأ العرض، فشاهدوها معاً، وعادوا بعدها إلى الماضي الذي كان قاسياً معهم. وبدل اقتطاع مشاهد من أفلامهم، اقتُطِعت أجزاء من قلوبهم. "قبل العرض" فيلمٌ توثيقي مهم، قدّم شهادات عن تاريخ الرقابة على الأفلام في السينما التونسية، واستقى الحقائق التاريخية من الأشخاص والضيوف الذين كانوا أحد طرفي المعادلة. بهذا، قدّم بلال المازني وثيقة بصرية، ستكون مرجعاً مهمّاً للأجيال الحالية والمقبلة. ورغم أهمية الموضوع، لم يتمّ إغفال طريقة المعالجة الذكية، التي صنعت جماليات في طريقة البناء وتقديم المعلومة، انطلاقاً من السياق الفني المعرفي.

المساهمون