"فلسطين الصغرى" لعبد الله الخطيب: صمتٌ بصري يعكس قسوة الواقع

"فلسطين الصغرى" لعبد الله الخطيب: صمتٌ بصري يعكس قسوة الواقع

02 يونيو 2021
عازف البيانو ورفاقه في اليرموك (6/ 2/ 2014): لا لفقدان الذات (رامي السيّد/ وكالة الأناضول)
+ الخط -

 

المعلومات التاريخية، المذكورة في بداية "فلسطين الصغرى، يوميات حصار" (إنتاج مشترك بين لبنان وفرنسا وقطر، 2021، 83 دقيقة) لعبد الله الخطيب، تُمهِّد لرحلة في جحيمٍ أرضيّ، بجُملٍ مختصرة، تصطفّ كلماتها بصرامة وقسوة، رغم محاولة خفِرة لتلطيف مضمونها. المحاولة تفشل. لقطات عدّة، مُصوّرة في مخيّم اليرموك (دمشق) في أسابيع مديدة (13 يناير/كانون الثاني 2014 أول تاريخ يُذكر في بداية الفيلم)، زمن حصاره الخانق، كفيلةٌ بتبيان قسوةٍ وعنفٍ ومهانةٍ، يُمارسها جيش النظام الأسديّ بين عامي 2013 و2015، تحديداً.

المعلومات تاريخية. بعضها مرتبطٌ بـ عبد الله الخطيب، القائل إنّ أم محمود (والدته) تبدأ "العمل كممرضة متطوّعة، لرعاية كبار السنّ". يُضيف أنّه وأصدقاء له يحاولون، أحياناً، "تسجيل الوقائع اليومية للحصار". بحسب المعلومات، يأوي المخيّم قبل الحصار "أكبر تجمّع للشتات الفلسطيني في العالم". المتبقّي يتحوّل إلى صُور واقعية، وبعض الواقع أليم، تلتقطه كاميرا الخطيب من دون المسّ بتفصيلٍ أو محتوى، تاركةً إياه في كادرٍ ينقله إلى شاشةٍ وذاتٍ مُشَاهِدة. النظام الأسديّ يحاصر مخيّماً، ينتفض بعض ناسه تضامناً مع ثورة سلميّة، يُحوّلها النظام نفسه إلى حربٍ أهلية: "يُمنَع الأهالي من الدخول والخروج، ثم يُقطع الغذاء والماء والكهرباء والدواء بشكل كامل".

معلومات أخرى تُكتب في نهاية "يوميات حصار". 83 دقيقة تمرّ بين مفتتحٍ يُمهِّد درباً مليئاً بأشواك وقلاقل ووحشية، وخاتمةٍ تُلخِّص نتيجة حصار أسديّ لمخيّم، يقطنه مهجّرون من بلدهم الأصلي، فلسطين، منذ عام 1948: سقوط 181 من سكّان المخيم، جوعاً "أمام عدسات الكاميرات وعلى مرأى من العالم أجمع". سيطرة تنظيم "داعش" عليه، عام 2015، "بتسهيلات من الحكومة السورية". تدمير 50 بالمئة منه، بقصفٍ من طائرات روسية وأسديّة (2018). السماح للتنظيم بمغادرة المخيم إلى الصحراء السورية. منع النظام الأسديّ السكّان من العودة. أم محمود والمخرج يتشرّدان في العالم، كآخرين ممنوعين "من العودة إلى بيوتهم المدمّرة"، قبل بلوغهما ألمانيا: "أم محمود لا تزال تحلم بالعودة إلى مخيّم اليرموك، كي تُكمِل حلمها القديم بالعودة إلى فلسطين".

نصٌّ كهذا غير قادرٍ على اختزال صُور ملتقطة في حصارٍ، يُذِلّ أناساً يُقيمون فيه. كاميرا تتحرّر من مفردات التصوير، فتتجوّل في أزقّة ومنازل وشوارع ومساحات وفضاء ونفوس وتأمّلات، مكتفيةً بما يظهر أمام عدستها من دمار وأناسٍ من أعمارٍ مختلفة. عجائز يحتاجون إلى أدوية. أطفال يريدون اللعب، ويحلمون بأشياء قليلة وبسيطة. شبابٌ يتزوّجون ويفرحون، لكنّهم يُدركون أنّ البقاء أعجوبة، والمغادرة إعجاز، والعيش خارقٌ للطبيعة. كلامٌ كثيرٌ يُقال، في الذاكرة والتاريخ والراهن والسياسة والحاجات والتفكير والبوح. يتظاهر البعض طلباً لمأكلٍ ودواء. آخرون يصرخون: "الشعب يريد إسقاط الحصار". المهانة، لشدّتها، تكشف عن خرابٍ أمام كاميرا، تبدو صامتةً إزاء هول الصدمة.

 

 

هذا منبثقٌ من واقع مُخيّم، يربط عبد الله الخطيب تاريخ عجائزه وحاضرهم، براهن شبابه وأطفاله، وذكريات آبائهم والأجداد. نقمةٌ مخفّفة تلوح في قولِ عجوز عن "خطأ" مُشاركة البعض بثورةٍ سوريّة. نقمة مغلّفة بغضبٍ مستتر، فنبرتها توحي بهدوء وسلاسة، قبل أنْ تختزل كلماتها القليلة وجعاً غير مُحتَمَل. طفلةٌ تجمع من الأرض حشائش يُمكن طبخها. لها ابتسامة يصعب وصفها، لشدّة التباس معناها. لها حلم خروج إلى حياتها المسلوبة. أصوات انفجارات متتالية، لثوانٍ عدّة، غير مُتمكّنة من إثارة خوفٍ فيها، وهروب. رجالٌ يشتمون ضاحكين، عند سخريتهم من شبابٍ غير متزوّجين إلى الآن. عجائز يصمتون، وعندما يتفوّهون، يقولون وجعاً، والقول صامتٌ، فالكلمات قليلة.

لقطةٌ تُصوّر عريضةً مكتوبة على جدار: "أبناء مخيّم اليرموك. التوقيع على عريضة اللجوء الإنساني إلى دول أوروبا، وباقي الدول التي تحترم حقوق الإنسان" (22 يناير/كانون الثاني 2014). الكاميرا تواجه أناساً عديدين: "نُريد أنْ نعيش. نحن خُلقنا لنعيش. فليفهموها: لا براميلهم تُنهينا، ولا وجودهم يُنهينا. لا يُنهينا إلاّ ربّ العباد. هم لا يُنهون شيئاً. يُنهون أنفسهم"، يقول رجلٌ. أما الراوي، فيقول: "في الحصار، العدل يعني الانتقام فقط، ولا شيء آخر. حذارِ من الإفراط في الحقد والكراهية، فتَفْقِد ذاتك". المعادلة، رغم مثاليتها، تُكثِّف معنى المواجهة بين حقدٍ أعمى لنظامٍ قاتل، ودعوة إلى عدم الانزلاق إلى فقدان الذات، وفقدان الذات ينبع من إفراطٍ في الحقد والكراهية. أيكون العزف على البيانو والغناء حوله، في حصارٍ خانقٍ، هو التعبير عن رفض الوقوع في مهانة الحقد والكراهية؛ أم أنّها ردٌّ غير واعٍ على مخاوف وقلاقل وانكسارات؟

في "فلسطين الصغرى" الغلبة للواقع. السينما مُكتفية بتوثيق لحظاتٍ مليئة بقسوة وخرابٍ وتحدّيات، وإنْ تعجز التحدّيات عن إحقاق حقّ، وحماية مكانٍ، ومنع موتٍ. الخروج قاسٍ أيضاً. الأعوام الفاصلة بين تهجيرين (1948 و2015) لن تكون تمريناً على تهجيرٍ يتلو تهجيراً. لكنّ القدر خَطَرٌ، كما التهجير والحصار والتنكيل والمهانة. غلبة الواقع على سينما "فلسطين الصغرى" متأتية من قسوة الواقع نفسه، وعجز كلّ كاميرا عن الخروج على توثيقها إلى مُتخيّلٍ، يُكمِل التوثيق، ويمنحه جمالية بصرية.

الغلبةُ تقول إنّ عبد الله الخطيب، مُخرجاً ومُصوّراً (كما في تعريفٍ بالفيلم) وعائشاً "يوميات حصار"، يُريد للواقع حضوراً أكبر من السينما، وأهمّ.

 

(*) العرض الأول لـ"فلسطين الصغرى، يوميات حصار" ("بدايات للفنون السمعية البصرية" و"Films De Force Majeure") حاصلٌ في الدورة الـ52 (15 ـ 25 إبريل/نيسان 2021) لـ"مهرجان رؤى الواقع ـ نيون (سويسرا)"، في المسابقة الدولية للأفلام الطويلة.

المساهمون