"عنكبوت مُقدّس": سردٌ تشويقي كبير

"عنكبوت مُقدّس": سردٌ تشويقي كبير

03 اغسطس 2022
زهراء أمير إبراهيمي: أفضل ممثلة (عنكبوت مُقدّس) في "كانّ" 2022 (جون فيليبس/Getty)
+ الخط -

 

عبرتْ على السجادة الحمراء لمهرجان "كانّ" السينمائي ممثلات إيرانيات مشهورات، أمثال ليلى حاتمي وترانة عليدوستي. لكنّ جائزة أفضل تمثيل نسائي، في دورته الـ 75 (17 ـ 28 مايو/أيار 2022)، مُنحت لممثلة إيرانية غير معروفة عالمياً، ولا تُقيم في إيران منذ 14 عاماً، تُدعى زهراء (زهرا) أمير إبراهيمي، عن دورها في "عنكبوت مُقدّس"، للإيراني السويدي علي عباسي. ممثلة تلفزيونية معروفة في بلدها، اضطرّت إلى مغادرته على عجل، هرباً من فضيحةٍ، بعد تسرّب فيديو جنسي خاص بها، أدركت بسببه أنّه قُضي عليها اجتماعياً ومهنياً، لأنّ التسجيل من نوعٍ لا يمرّ بلا مبالاة، وبلا نتائج مُدمّرة في مجتمعات محافظة.

السفارة الفرنسية في طهران كانت الوحيدة التي عرضت عليها تأشيرة دخول إلى فرنسا، التي جاءتها شبه مُرغمة. فلا أحد لها هناك، ولا تعرف اللغة. كانت تُفضّل بريطانيا، أو الولايات المتحدة الأميركية. لكنّ البلدين لم يهتمّا بأمرها، كما تُشير إليه هذه الأيام مُقابلات معها، لا تتوقف بعد نيلها الجائزة. اليوم، وُلدت مجدّداً، إذْ رُدّ إليها اعتبارها، أخيراً.

تؤدّي إبراهيمي (1981) دوراً رئيسياً، في فيلمٍ مبنيّ على حادثة حقيقية عرفتها إيران عام 2000، بطلها قاتل متسلسل يُدعى سعيد حنائي، اشتُهر في مدينة "مشهد" بلقب "القاتل العنكبوت". كان يستهدف العاهرات والمدمنات على المخدرات في الشوارع، مُعتقداً أنّه يُنجز مهمة تطهير المدينة المقدسة (فيها ضريح علي الرضا، الإمام الثامن للشيعة الاثني عشرية) من خطاياها، فخَنَق حتى الموت 16 امرأة، قبل أنْ يُلقى القبض عليه، فيُحاكم، ويُعدم.

في مشهدٍ أول، صدر عارٍ لامرأة، وبعده بقليل مشهد علاقة جنسية لامرأة، تبيع جسدها لإدمانها على المخدرات. لا قطع، ولا رقابة. لوهلةٍ، بدا الأمر غريباً مع اللغة الفارسية، وكلّ مُكوّنات الشخصية الإيرانية، من شكل خارجي ولباسٍ وأمكنة، في فيلمٍ، تدور أحداثه في زمن معاصر، لم نعتده. ربما يلزم وقتٌ قبل الدخول فيه، والتفاعل مع أحداثه وشخصياته. لكنّ الإخراج، بأسلوب مشوّق في السرد، يُنسي المُشاهد سريعاً هذا التحفّظ الأولي، دافعاً إياه إلى الاستغراق تماماً في فيلمٍ مُدهشٍ، على هناته.

عاملٌ سلبي آخر: فالفيلم، من بداياته، يكشف شخصية القاتل، مُغايراً بهذا سينما النوع، أي البوليسيّ القائم على عنصر التشويق، بكشفٍ تدريجيّ لمُرتكب الجرائم. لكنْ، رغم ما يمكن تسميته بـ "حرق" المفاجأة، التي ليست بذلك لمن يعرف القصّة، المتوقّعة في فيلمٍ مستلّ من حادثة حقيقية، يُتابع "عنكبوت مُقدّس" سرده بتشويق كبير. فمن أين تأتّى ذلك؟ لعلّه التوتر، الذي تمكّن عباسي من إضفائه على معظم مراحله، والحفاظ عليه رغم تكرار مَشاهد اصطياد القاتل، وهو على دراجته النارية، للضحية، ثمّ خنقها بغطاء رأسها، عاقداً إياه حول رقبتها على شكل شبكة العنكبوت.

لعلّ الاهتمام متأتٍ أيضاً من الشخصية المُعقّدة للقاتل، وتناقضها بين النهار والليل، وتطوّر انعكاساتها النفسية، ما يولّد رغبةً في معرفة المزيد. في النهار، سعيد حنائي ربّ بيتٍ مُحبّ لولديه، ومُهتمّ بزوجته. يعمل في البناء، ويعيش حياة مُريحة ظاهرياً. ورعٌ، يؤدّي الطقوس الدينية، ويحرص على زيارة ضريح الإمام. هذه الصورة النهارية المثالية تهتزّ أحياناً، مع دلائل على بذور عنف في شخصيته، كأنْ تتغيّر نظرته وتشتعل، كما في عصبية مُفاجئة مع عائلته، يسيطر عليها سريعاً، وتُبدي مدى قوّة أعصابه وتحكّمه بنفسه. يختار ليلة الخميس لتنفيذ مهمته، ولإشباع رغبةٍ مجنونة لديه في التطهير. إنّه لا يرغب حتى في الاعتداء على ضحاياه، ويستغفر الله لأنّه يلمسهنّ، لا لأنّه يقتلهنّ.

مهدي بجستاني ممثل مسرحي إيراني، يؤدّي دور سعيد على أفضلِ نحوٍ، مُبرزاً تحوّلات مشاعره، وقناعته التامة بما يقوم به من مسؤولية أخلاقية، وشعوره بأداء واجبه. يرفض الاعتراف بالجنون، بناءً على طلب محاميه، للتخلّص من حكم الإعدام، مُؤكداً سلامته، وضرورة ما يفعله، وقناعته التامة بما يقوم به. أداؤه في مشهدٍ سابقٍ على إعدامه، وهو يصيح "براءة"، يُثير شفقةً عليه: "ليس هذا ما جرى الاتفاق عليه". أقنعه زملاؤه القدماء في "جمعية المحاربين" (إنّه بطلٌ في الحرب العراقية الإيرانية) بأنّ اتفاقاً تمّ مع السلطات لتهريبه.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هذه الجملة الأخيرة، التي بنى عليها عباسي مشهده الأخير مع القاتل، إلى مؤشّرات أخرى عن تكاسل الشرطة في البحث الجاد عن الجاني، هدفتْ إلى الإيحاء بأنّ السلطات لم تكترث تماماً بما كان يفعله سعيد حنائي. كأنّها راضية عن هذا "التطهير"، كفئة من المجتمع، ترى في عمله بطولة. تأكّد هذا بعد القبض عليه، والتضامن الشعبي معه. كانت تلك وسيلة عباسي، الذي كان لا يزال يعيش في إيران آنذاك (عام 2000)، قبل أن يهاجر للدراسة، منتقداً بها (الوسيلة) الوضع السياسي والاجتماعي هناك.

كذلك، بدا خَلْقُ عباسي دور الصحافية رحيمي (إبراهيمي)، غير الموجودة في الحادثة الحقيقية، نوعاً من موازنةٍ مع دور القاتل، وإعطاء مسوّغات درامية لانتقاد السلطات الإيرانية. فالصحافية أتت من طهران للتحقيق في الأمر، محاولةً فهم "عجز" السلطات عن القبض على القاتل، بعد 16 جريمة في عامٍ واحدٍ تقريباً. بتحقيقاتها وملاحقتها الشرطة ورجال القضاء، كانت رحيمي أداة ناجعة في السرد، لتبيان مدى تواطؤ هؤلاء مع فئة من الشعب مؤيّدة للقاتل، ولتسليط ضوءٍ على الوضع الهشّ للمرأة، والنظرة الأخلاقية التي تحكمها وحدها من دون الرجل. لكنّ الدور لم يكن مرسوماً بعمق، كحال الدور الرئيسي لسعيد حنائي، إذْ لم تظهر على رحيمي أية تطوّراتٍ في الشخصية والأداء. فمن لحظة وصولها إلى "مشهد"، حتّى لقائها الجاني في النهاية، سار الدور والأداء على خطّ مُستقيمٍ، لا شيء لافتاً فيه، وإبراهيمي لم تُكسبه أبعاداً إضافية، بل أدّته كما يجب، مع شحنة أكبر من الغضب، ربّما لأن إحباط الصحافية ذكّرها بإحباطٍ في حياتها الخاصة ـ العامة، بعد تسريب الفيديو.

إيران ـ التي لم تمنح تصريحاً بالتصوير في "مشهد"، ما دفع عباسي إلى تصوير فيلمه في الأردن- اتّهمته، بعد عرض فيلمه في "كانّ"، بأنّه رفض إظهار الحقيقة، كما أظهرت الوثائق والأدلة المُقدّمة في محكمة سعيد حنائي، وبأنّ محتوى فيلم بوليسي عن قاتل، بات قضية سياسية ضد الثقافة الإيرانية والقيم الإسلامية، أكثر من كونه فيلماً عن قاتل.

فكرة "عنكبوت مُقدَّس" عالجها سابقاً مخرجون إيرانيون، بينهم مازيار بهاري، الذي أنجز "عنكبوت" عام 2011 (متوفّر على الشبكة العنكبوتية)، كوثائقيّ يظهر فيه حنائي في مقابلات عدّة وسيماً وهادئاً وبسيطاً، كما تظهر في الفيلم صحافية من "مشهد"، نشرت مقالةً عن إعدام القاتل، الذي شهدته. يقول علي عباسي، في مقابلة ترويجية لفيلمه (المعروض حالياً في الصالات الفرنسية)، إن المقالة ألهمته، وأنّه وجد حنائي "سعيداً، كأنّه سامح نفسه على جرائمه"، فهو ليس من النوع المُتلاعِب، ويتحلّى بصدقٍ، من دون أنْ يعني هذا "أنّي أحببته، أو وافقت على أفعاله"، لكنّ هذا "جعل قصته وشخصيته أكثر تعقيداً مما كنتُ أتخيّل".

الفيلم الثاني روائي، بالعنوان نفسه، "عنكبوت"، لإبراهيم إيرج زاد، عُرض في فبراير/شباط 2022 في إيران، وشارك في مهرجانات دولية عدّة، قبل عرض فيلم عباسي، ما أثار أقاويل واتّهامات في إيران بتأثّر واقتباس.

المساهمون