"عالم آخر"... سيناريو عن عالمٍ لا يرى إلّا الأرقام

"عالم آخر"... سيناريو عن عالمٍ لا يرى إلّا الأرقام

24 أكتوبر 2021
فنسان ليندون في "عالم آخر": معضلة أخلاقية (الملف الصحافي)
+ الخط -

يثير "عالم آخر" (2020)، للفرنسي ستيفان بريزي، شعوراً متنامياً باختناقٍ من صورةٍ يعكسها عن عالم معاصر، تسيطر عليه شركات معولمة ترى أرقاماً فقط، وتسحق أفراداً، وتُجرّد آخرين من إنسانيتهم.

فيلم يُذكّر بكل ما كانت تبرزه يومياً نشرات أخبار فرنسية، من تظاهرات عمّال، وإغلاق مصانع صغيرة وكبيرة، لعدم قدرتها على المنافسة أمام رخص البضائع والنفوس، أو نَقْلِ أخرى إلى أماكن أقلّ كلفة خارج الحدود. ليس إعادة تذكير بهؤلاء، وهم يُخْفَوْن من الشاشات اليوم، أو معالجة سينمائية إضافية لأوضاع تتكرّر، وإثارة وقائع تبرزها أخبار يومية. "عالم آخر" يتوغّل عميقاً في خلفيات هذا السعي، بل اللهاث، إلى تحقيق مزيدٍ من الأرباح على حساب الإنسان، ويسبر معاناة أفراد كانوا يعطون في عملهم، للحفاظ عليه، كلّ ما في مقدورهم، وكلّ ما يتجاوز قدراتهم، لتتحوّل مجابهتهم الشجاعة لنظام اقتصادي معولم، غالباً، إلى شعور بإحباط وعجز.

"عالم آخر" ـ المُشارك مع 15 فيلماً آخر في المسابقة الرسمية للدورة الخامسة (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ جزءٌ من ثلاثية لبريزي عن أسواق العمل والمال، والأزمات الأخلاقية المرتبطة بهما، بطلها الممثل فنسان ليندون. البداية مع "قوانين السوق" (2015): عاطل عن العمل يواجه، مع بداية وظيفة جديدة له، مأزقاً أخلاقياً، يمتحن مدى استعداده لقبول كلّ شيء للاحتفاظ بها. ثم "في حرب" (2018): وعود كاذبة من إدارة مصنع، وقرار صادم بالإغلاق وفصل مئات العمّال والموظّفين، رغم التضحيات المالية الكبيرة لهم، والأرباح القياسية للمصنع. ختام الثلاثية (عالم آخر) تناول القضية من منحى آخر، لا يُكترث بأمره غالباً، إعلامياً وسينمائياً: وجهات نظر أرباب العمل الصغار، أو نصف الكبار، الذين يعيشون مع العمّال في أجواء المصنع، ويلمسون متاعبهم اليومية ومعاناتهم وقلقهم إزاء نظام اقتصادي رأسمالي صارم، لا شفقة فيه ولا رحمة.

سيناريو متين، كتبه بريزي مع أوليفيه غورس، يسرد يوميات مدير أعمال ناجح في مجموعة صناعية، في وقت حرج من حياته. فيليب (فنسان ليندون)، بسبب ضغوط أعوام عدة من عمل هائل في مصنعه، يواجه رغبة زوجة محبِّة (ساندرين كيبرلان) في الانفصال، ووقوع ابن شاب في أزمة نفسية، فيما تطحنه حياته المهنية، فتبدو الخيارات أصعب وأقسى. هناك، يطالبونه بتقليص عدد العاملين في المصنع، وفيليب لا يعرف كيف يستجيب للأوامر غير المتسقة من إدارته، وعليه تنفيذها. إنّه في فترة يجب أنْ يُقرّر فيها توجهاته.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لوهلة، بدا "عالم آخر"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، كأنّه يسير على المنوال نفسه للفيلمين السابقين، في حبكته وموضوعه وتوجّهه التضامني مع العمال، والإكثار من الحوار والنقاش. لكنّه لم يكفّ عن مفاجأة مشاهده في مساره، وفي تركيزه على مواقف شخصيته الرئيسية، وفي رسم عالمها اليومي. يبتعد عن أجواء العمّال ونقاشاتهم، من دون إغفال هذا المنحى تماماً، لكنّه لا يغرق فيه، بل يستخدمه فقط في مشاهد لها علاقة مباشرة ومؤثرة مع فيليب.

هذا الأخير محورٌ تبنى عليه الأحداث كمتلقٍ ومُحرّك لها. في التقاطٍ مُدهش لكلّ ما يمكن أنْ يشعر به من انفعالات، في مواجهته صعوباته العائلية، وأوامر الإدارة العليا في الولايات المتحدة الأميركية، التي اشترت الفروع الأوروبية كلّها، يَبرز التوتّر الذي يسيطر على فيليب، والمواقف الحرجة التي يجد نفسه فيها، والتمزّق الذي يعانيه، والإرهاق الجسدي والمعنوي الذي يبدو جلياً على ملامحه، من دون حاجة إلى وصف أو بوح. رتابة الوجود، التي وضع فيليب نفسه فيها، تتبدّى في تكرار آلي ليومياتٍ، تبدأ مع عقد ربطة العنق، وتناول الدواء (لعلّه مهدّئ)، ثم العمل، وتفريغ الضغوط في قاعة الرياضة.

إنّه ممزّق بين إدارة بعيدة توظّفه، ولا تسمح بتهاون، وولاء كامل للعمل ومصالح العمّال. ستيفان بريزي يبرع من اللقطة الأولى، باستعانته بأضواء خافتة (تصوير إيريك دومون) وموسيقى تصويرية (كميل روكايّو)، في بثّ أجواء قلق وتوتّر، للإيحاء بأنّ الصُوَر العائلية المُعلّقة على الجدران، التي تلتقطها الكاميرا صعوداً وهبوطاً ويميناً ويساراً، والتي تبدي سعادة وحباً، ليست سوى ذكرى حياة ماضية. سعادةٌ يتبدّد أثرها في المشهد التالي، مع إجراءات طلاق أرغم عليها الزوجان، بعد أنْ تغيّرت حياتهما بسبب التزامات فيليب، وانغماسه التام في عمله. لقطات مُقرّبة للزوجين استُخدمت بكثرة، للتعبير عن معاناة وإرهاق نفسي.

من التركيز على الشخصية الرئيسية، تأتي أهمية الفيلم. فبعيداً عن الأفكار السائدة عن تآمر دائم على العمّال، بين ربّ العمل وأرباب أعلى مرتبة، يفاجئ بريزي بسيناريو وإخراج يقتربان من مهنة، يُمكنها أنْ تكون نبيلة أحياناً، وأحياناً فقط. يقف صاحبها شبه وحيد بين الطرفين، بينما يساء فهمه تماماً من عمّاله، وتُساء معاملته من مديرين بعيدين، يرون العمّال أرقاماً يجب إنقاصها، في مقابل أرباحٍ يجب رفع أرقامها. فما موقف "إنسان" من هذا كلّه؟ وكيف يخضع للضغوط الهائلة؟ إنّه عالقٌ في نظامٍ، ولديه حياة تفقد معناها، في عمله وعلاقاته. ترك أهله ليتفرّغ لعمله، وها هو يواجه معضلة أخلاقية، تضعه على مفترق طرق في حياته، كإنسان وربّ عمل.

يقدّم ستيفان بريزي هذا كلّه في كلامٍ قليل، مقارنة مع "في حرب"، وفي أسلوب يعتمد على تعابير الممثلين وأدائهم الرائع في إتقانه. وقبل كلّ شيء، على حبكة متينة، وإيقاع منتظم لا يحول دون استمتاعٍ كبير به.

المساهمون