"عالقون معاً" بسبب كورونا: كوميديا سينمائية منفعلة

"عالقون معاً" بسبب كورونا: كوميديا سينمائية منفعلة

22 نوفمبر 2021
داني بوون ولورنس آرني: انفعالات أقوى من الجماليات (دوني شارْليه/ فرانس برس)
+ الخط -

 

فيلمٌ فرنسي جديد، يروي يوميات أناسٍ يُقيمون معاً في مبنى واحد، في أحد شوارع الدائرة الـ11، في باريس. عنوانه الفرنسي اسم الشارع نفسه: "8 شارع الإنسانية". للعنوان الإنكليزي معنى أعمق وأقدر على اختزال الحكاية كلّها، قبل مشاهدة وقائعها في 126 دقيقة: "عالقون معاً (Stuck Together)".

زمن حكاية الفيلم، لداني بوون مخرجاً وممثلاً، قائمٌ في إحدى فترات الحجر الصحي ومنع التجوّل في فرنسا، ودول أخرى كثيرة، مع انتشار وباء كورونا. بداية الفيلم (2021، نتفليكس) تصويرٌ للشوارع الخالية من المارّة، كأنّ "نهاية العالم" تحلّ في الواقع، كحلولها في أفلامٍ عدّة، لكنْ من دون دمار، رغم أنّ البشرية تخوض حرباً، كقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه إلى الفرنسيين، مع بداية العزلة المنزلية القسرية: "لكنْ، بما أنّها حربٌ، فأين الجنود وأسلحتهم؟" يتساءل باسيل (ميلو ـ ماتشادو غْرانِر)، راوي افتتاح الحكاية، المُصوّرة سينمائياً بين نهاية أكتوبر/تشرين الأول وبداية ديسمبر/كانون الأول 2020.

العنوان الإنكليزي أوضح من ذاك الفرنسيّ، العادي للغاية. "عالقون معاً" هم سكّان مبنى واحد، له باحة أمامية، فيها مختبر وحانة وغرفة الناطور. في الباحة، سيارة دفع رباعي حمراء اللون، يُكتَشف لاحقاً أنّ شراءها حاصلٌ قبل وقتٍ قليل على العزلة، وصاحبها توني (فرنسوا داميان) بلجيكيٌّ يُقيم مع ابنه باسيل وابنته فِكتوار (إيف مارْنِيَا) في الطابقين الأخيرين، فهو المالك الوحيد في المبنى، والآخرون جميعهم مستأجرون، وهذا دافعٌ له إلى السخرية الدائمة منهم ومنهنّ، ومن المستأجرين عموماً، بلغته القاسية ونبرته الحادّة وتشاوفه الدائم، ما يدفع امرأته إيزابيل (ميريام بورغِنيون) إلى "هَجْرِه"، للسانه السليط، خصوصاً مع النساء.

يوميات 11 شخصاً، يُقيمون في مبنى واحدٍ، تكشف تفاصيل يفرضها الحجر والعزلة، والشروط الجديدة للتواصل بين الناس، التي يطرحها كورونا منذ تفشّيه في العالم، مطلع 2020. بالإضافة إلى هؤلاء، هناك امرأة مُقيمة في منزل صديقةٍ لها، تخرج مساء كلّ يوم، رغم منع التجوّل، وتعود صباح اليوم التالي. هذا مُخيف لبعض هؤلاء، فهي قادمةٌ من خارج المبنى، خصوصاً أكثرهم ارتياباً وقلقاً وحذراً إزاء الوباء، مارتان (بوون). التوتر حاضرٌ، فالإقامة الدائمة في منزلٍ مُثير لارتباك وصدام خفي بين المُقيمين فيه، لأنّ لكلّ واحد مزاجه ورغباته وهواجسه وطموحاته واشتغالاته، والآخر المُقيم معه غير مبالٍ، إمّا بسبب اضطرابه وحرصه الشديد على إبعاد الوباء عن المنزل، وإمّا بسبب هوسه برفع عدد متابعيه على إنستغرام.

أغات الحامل (أليسون ويلر) تُقدِّم نفسها مغنّية، تحمل غيتاراً من دون حرفية لديها في العزف، لكنّها تؤلِّف أغنية عن الوباء، بينما شريكها سامويل (توم ليب) مدرّب رياضي، لديه سيدات طاعنات في السنّ يتابعنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كلير (لورنس آرني)، زوجة مارتان ووالدة لونا (روز دو كرْفِنويل)، محامية تعجز عن العمل من المنزل بسبب ضغوط العزلة. توني يريد عودة زوجته، والناطور دييغو (خورخي كالفو) ينتظر عودة زوجته (كلارا تشيريرا) من المستشفى، بعد شفائها من الوباء. لويز (ليليان روفِر) ترغب في إعادة فتح الحانة، وجان ـ بول (إيفان أتّال) مهووس برغبة جامحة في اختراع لقاح، في المختبر الصغير.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

التشنّج والاضطراب والخوف المرضيّ من الوباء ("أمرٌ سخيفٌ للغاية أنْ يموت المرء بسبب كورونا من دون الإصابة به"، تقول كلير ساخرة من مارتان)، والتشاوف المؤدّي إلى نزاع خفي مع الآخرين، وجنون العلم، والأحلام الصغيرة؛ أمورٌ كهذه تُنتج ـ في آنٍ واحد ـ مواقف طريفة للغاية، وتساؤلات عميقة تُطرح مواربة، عن العلاقات ومغزى تفشّي الوباء ونتائج العزلة المنزلية، وعن حبّ وشغفٍ وأولوية التصالح مع الذات لبدء مرحلة جديدة من الحياة. المواقف الطريفة مُضحكةٌ، رغم أنّ الكوميديا، التي يُفترض بالفيلم أنْ يلتزمها، غير كاملةٍ، فالموت يحضر خفيةً، مع إخبار المرأة "الغامضة" دييغو موت زوجته.

المرأة الغامضة، التي يُبلَّغ عنها، تُدعى ليلى (نوال مدني)، وتكشف للجميع، بحدّة وغضبٍ، أنّها طبيبة في قسم طوارئ أحد المستشفيات، وأنّ عزلتها عنهم حماية لهم، فهي تحتكّ يومياً بكثيرين، وزميلان لها مُصابان بالوباء. هذا حاصلٌ بعد توقيف شرطيين لها أمام مدخل المبنى.

المسائل المطروحة واقعية وحيوية وآنيّة، لكنّ الحسّ الميلودراميّ مَقتلُ فيلمٍ، يُفضَّل تحصينه من مستوى عالٍ جداً من الانفعال، المبثوث في العالم عبر الإعلام المرئيّ: التصفيق اليومي للأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات والعاملين والعاملات في المجال الصحي تحية شفّافة، لكنّ المآل الأخير للأحداث، التي تقول بضرورة التصالح مع الذات وتفعيل التواصل البشري والحسّي والمباشر بين الأفراد، مُصوَّرٌ بانفعال بصريّ مؤثّر، يكاد يُفقده معناه الحسن والجميل.

مدّة الفيلم أطول من المَرويّ فيه، المحتاج أصلاً إلى تكثيف درامي (سيناريو داني بوون ولورنس آرني، شريكته في الحياة أيضاً). هذا عطبٌ، إذْ إنّ بعض المروي مُكرّر، وعلى التوليف (إيرفي دو لُوز) أنْ يُعمِل "مقصّه" أكثر. الأداء عاديّ، وفي لحظاتٍ عدّة يُثير أداء بعض الممثلين ضحكاً، بفضل حركةٍ أو قولٍ أو اشتباك طريف بين اثنين أو أكثر. التصرّفات المتحكّمة بسكّان المبنى تتطابق مع تصرّفات كثيرين في لحظات كهذه. التسامح والتواصل أيضاً. واقعية النصّ والمعالجة والسرد منبثقةٌ من واقعية حدثٍ يهزّ العالم برمّته إلى الآن.

"8 شارع الإنسانية" يبقى فيلم تسليةٍ، ذات رسائل واضحة عن التسامح والمصالحة وتحسين العلاقات بين الناس، وعن ضرورة كسر الحواجز ونبذ العزلة. رسائل مبثوثة إلى المشاهدين مباشرةً، وهذا ثقيلٌ درامياً وجمالياً.

المساهمون