"ضد الجليد": رحلة استكشاف النَفس والرفيق معاً

"ضد الجليد": رحلة استكشاف النَفس والرفيق معاً

09 مايو 2022
"ضد الجليد": مواجهةٌ بالبوصلة والكتابة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

5 أسئلة تُطرح في نقد "ضد الجليد" (2022) للدنماركي بيتر فلينت، وفق منهج دراسة حالة، لينشأ النصّ التالي بعد مُشاهدته، ولا يكون خطاباً سابقاً لها.

أين تجري الأحداث؟ على عتبة القطب الشمالي. متى؟ في لحظة تحوّل مذهلة، لوضع المُشاهِد في سِياقها، درامياً لا لفظياً. قدّم الميكانيكيّ طلباً للعمل في سفينة "تايتانيك"، لكن طلبه رُفض، فحزن. حين علم أنّ السفينة كسرها الـ"آيسبرغ"، فرح، لأنّه نجا من الموت. مُساعد غريب عن مهنة الاستكشاف، لكنْ له مهارة ذات مستقبل. كان ميكانيكياً في مطلع القرن الـ20. زُرعت الأحداث في تلك الفترة، حين اختُرعت آلات جديدة، صارت اليوم مملّة. كان الاستماع إلى أغنيةٍ على جهاز "غراموفون" حدثاً، والتقاطُ صورةٍ عيداً.

من؟ مُستكشف واثقٌ من نفسه، ومن نبل مهمته. واثقٌ حتّى في أصعب الظروف. يُخضَع لاختباراتٍ خطرة، في منطقة نائية. لماذا؟ لسرد حكاية مهام بعثةٍ جديدة، تتعقّب آثار بعثة سابقة، اختفت في الثلج. هنا، تلتقي الشخصية والمكان في الحكاية. حكاية مُستكشف بارع لا يستسلم. للرحلة الاستكشافية هدفان، علميّ وسياسيّ. المستكشف يبحث عن مخطوطٍ يثبت ملكية بلدٍ، ويُحقّق سبقاً. في بحثه هذا، يكتب ملاحظات. من يكتب، يترك أثراً، ويَخلد.

عُثِر على المخطوط. كان دليلاً جغرافياً على الوحدة الترابية للدنمارك. من دون تلك الوثائق، تحتلّ أميركا المنطقة. يسخر المُستكشف الدنماركي من أنّ الأميركيين يرفعون عَلماً في كلّ أرضٍ يحلّون فيها. يريدون السيطرة على كلّ القطب الشمالي. هكذا تلتقي الحكاية المحلية بالحكاية الكونية.

من؟ أين؟ متى؟ لماذا؟ هذا هو الموضوع: رجلان في مواجهة الثلج يتركان أثراً مكتوباً بين الحجارة، لتعثر البعثات الاستكشافية اللاحقة على بصمتهما وأثرهما، إنْ ماتا.

كيف؟ هذا هو الأسلوب: مساحات شاسعة من الثلج. لقطة فمٍ يرتعش عليه رذاذ ثلج. كاميرا في مواجهة اللامتناهي الكِبَر واللامتناهي الصِغَر. يجمعهما مونتاج جدليّ، تتوالى فيه اللقطات بالتناوب بين المتناهي الكِبَر والمتناهي الصٍغَر. تكشف الكاميرا صغر حجم الإنسان، مقابل عظمة الطبيعة. لكنْ، للإنسان سلاحان أقوى، يحميانه من الفناء: البوصلة والكتابة.

يوفّر الأسلوب زاوية مقاربة لـ"ضد الجليد" ("مفقود في القطب الشماليّ"، بحسب العنوان الفرنسي). تصعب الكتابة عن فيلمٍ، فيه صفر أسلوب، وصفر تفكير في الشكل الذي يعرض موضوعه، وصفر وعي بالتقنية التي يسرد بها قصته. حتّى موضوع الفيلم يُمجّد الكتابة، وهي مَلِكة الأسلبة.

مات المُستكشفون السابقون، فيُبحث عن أثرهم. بالتأكيد كتبوا ملاحظاتهم التي تمثّل سبقاً. بعد جهدٍ، عُثر على مخطوط يقوّي الأمل، ويُحفّز على متابعة المغامرة. يستمرّ المُستكشف في معرفة الاتجاه بفضل البوصلة والحروف. يترك أثراً مكتوباً بين الحجارة، لتعثر البعثات الاستكشافية اللاحقة على أثره، إنْ مات في الصقيع. تنقرض الأجساد، وتخلد الكتابة. الحروف أشدّ من الثلوج والجبال. للكتابة قيمة كبيرة. إنّها أخطر من الطبيعة. لذلك، يكتب المُستكشف طيلة الوقت. تربط الكتابة اليد والعقل. ما يدخل العقل عن طريق اليد لن يُنسى.

بفضل الأثر المكتوب، تتعقّب بعثة جديدة آثار بعثة مفقودة في فضاء عدواني. يغذّي البؤس والعزلة التخيّلات والأوهام.

 

 

يتظاهر البشر في الأزمات بأنّ كلّ شيءٍ بخير. يتظاهرون، لكنْ، في دواخل أنفسهم، غليان. هنا تصبح الكتابة تسلية وعلاجاً. في هذه البيئة الصقيعية، يصير الأمل عملة نادرة.

رجلان في الخلاء. يُقدّم المُستكشف لمُساعده دروساً في إدارة قطيع الكلاب. في هذه العزلة، تطفو ذكريات النساء. حينها، يغلب الوهم على الحقيقة، لتعزية النفس. بعد مُكابرةٍ، يعترفان بأنّهما يفتقدان ـ في هذا الصقيع ـ صحبة النساء، وضحكة الأنوثة وعطرها.

عرضت "نتفليكس" مسلسلات كثيرة عن حياة شعوب شمال أوروبا البارد. حين تتجمّد الأقدام، يجب قطع إصبع القدم، ليتدفّق الدم مجدّداً. هذا فضاء عدواني، علّم سكّانه أنّ لحظة بردٍ أقسى من 7 أعوام دفء.

بينما يُتابع المُشاهد الفيلم آمناً بجلوسه على أريكةٍ، في غرفة مُكيّفة، يُعيده الفيلم إلى حقيقة عاشها البشر ملايين السنين: هناك احتمالٌ في أنْ يموتوا من البرد والجوع؛ وحقيقة أنّ عليهم السفر خفافاً، لأنّهم يحملون حاجاتهم على ظهورهم.

تتنقل الكاميرا بين المتناهي الكِبَر والمتناهي الصِغَر. المتناهي الكِبَر طبيعي: جبل وصخر وثلج. اللامتناهي الصِغَر كائن بشري. تتناوب هذه اللقطات. في أفلامٍ كهذه، شخصيات قليلة. هنا، تمّ عصر الشخصيتين بعزلهما في فضاء عدواني. في العزلة، تعود الذكريات. تُدقّق الأسئلة، فتخرج العدوانية الكامنة في كلّ فرد عن السيطرة، وتقع مطاردة في الثلج، كما في "بريق" (1980) لستانلي كوبريك. من فرط التشابه، نظر الممثل إلى الكاميرا في اللقطة، لأنّه كان يُفكّر في المشهد الأصلي، أكثر من تفكيره في استنساخه.

يتسكّع المغامر في فضاءات لا نهائية. يعيش رحلة استكشاف مزدوجة: اكتشاف الرفيق واكتشاف النفس. هناك شخصٌ وحيدٌ على سطح أبيض لامتناهي. ينظر في كلّ الجهات، ولا أحد في مرمى البصر، الذي لا يحدّه إلاّ الأفق. يتقدّم باتجاه العدم. يحدوه أمل مهول. سلاحه بوصلة ومخطوط. لكنّ نهاية الرحلة تُثبت قدرة الإنسان على ترويض الطبيعة، وإخضاعها لتحقيق أهدافه. بينما يمضي المُغامر في رحلته في القفار، تُطارده الكاميرا من مسافات متباينة.

في هذه الفضاءات الواسعة، يجد المخرجون طُبوغرافيا ملائمة للّعب بالمنظور، بين لامتناهي الصِغَر، الذي يصير لامتناهي الكِبَر، حين يُصوّر في لقطات "كلوز آب". يمكن تعميم دراسة هذه الحالة على أفلام مشابهة، كأفلام الوسترن. أحدث استخدامٍ لهذا الأسلوب يظهر في "قوّة الكلب" (2021)، الذي منح جين كامبيون "أوسكار" أفضل إخراج، في النسخة الـ94 (27 مارس/آذار 2022).

المساهمون