"ذا ون"... ماذا لو أصبح الإنسان نملةً؟

"ذا ون"... ماذا لو أصبح الإنسان نملةً؟

30 مارس 2021
هل هناك شريك مثالي أوحد لكل منا؟ (نتفليكس)
+ الخط -

في أية بقعة من بقاع الأرض، ومهما اختلف شكل الثقافة واللغة والجنس والعرق، سيضمن تطبيق "تحليل الحب"، عبر تحليل سريع لبيانات الحمض النووي الخاص بالأفراد، معرفة الشريك المثالي، وبالتالي حياة عاطفية مثالية بين الشركاء المتوافقة جيناتهم البيولوجية. هذه الفكرة، خلاصة مسلسل الجريمة والخيال العلمي البريطاني، "ذا ون" المستوحى من رواية تحمل العنوان نفسه للكاتب الإنكليزي جون مارس. 

إن حشرات مثل النمل، تنتج فيرمونات هيدروكربونية جلدية، وهي خليط من المواد الكيميائية، تساعدها على إيجاد شريكها والتواصل، معه دون أي حشرات أخرى، ولو كانت من الفصيل نفسه. بالتالي، يرى كل من ريبيكا ويب (هانّا وير) إلى جانب جيمز واتسون (ديمتري ليونايدس)، أصحاب نظرية "التوافق"، أن الاستجابة هذه، عند النمل، سببها تشاركهم في الطفرات الجينية ذاتها.

وبعد مقارنة بيانات تسلسل الجينوم بالمركبات الهيدروكربونية الجلدية عند النمل المتزاوج، وجدا أن الطفرات الجينية المتشابهة تنتج الفيرمونات نفسها. وبذلك، يصبح لدينا قصة خيالية ذكية، حين يفترض النص اقتران نجاح ثنائية التماثل العاطفي الإنساني بالنظام التواصلي للحشرات الاجتماعية. ليأخذ بطرق التزاوج والتواصل في ما بينها، قاعدة، يبنى على أساسها، دعامات السيناريو وحبكته وشخوصه.

ما أن ندخل في مبررات المنطق الخيالي للفكرة، ونقبل نجاحها دراميًا، حتى يفتح لنا باب التكهنات والتفسيرات تجاه المنطق الواقعي لبناء العلاقات العاطفية. إذ بين المنطق والخيال، مساحة ضيقة اشتغل عليها العمل. فهو لم يخرج عن مداره، فتتعقد الحكاية وتصبح عصية على الفهم. ولا ينزوي في مكانه مراهنًا على بساطة حبكته، فيسخف من حتميات التوازن العاطفي التي يقترحها. كل عنصر وضع في مكانه المناسب، من دون مغالاة أو توضيب متعمد للفكرة الأساسية.

لذا، نشهد منذ بداية الحلقة الأولى حتى الأخيرة، ثلاثة محاور لم توظف بهدف التوسّع وخلق الأحداث فحسب، بل تنازلًا من الكاتب عن حق التعنت، وفتح حلقة جدال للمُشاهد حول تقبّل فكرة الشريك الأوحد المثالي أو العكس، تترجمها هذه المحاور بشكل انسيابي ومتزن، ما سمح للسيناريو بالابتعاد عن الابتذال القصصي، وتدعيم الحبكة من خلال تقويمها وتوجيهها بمسارين زمنيين، سمحت رؤية المخرجين، الذين تناوبوا على إخراج الحلقات الثماني، بثباتها.

مفهوم الشريك المثالي، هو مفهوم ضيق قياسًا بالتجربة الإنسانية الواسعة. فبناء علاقات عاطفية وزوجية، لا يقاس بالمثاليات، بقدر ما يقاس بالكماليات والاهتمامات. من هنا، ندخل في صراعات فكرية واجتماعية، ينجح الممثلون في تصويرها وعرضها. فمنشأ الصراع ينطلق من مشروع البطلة ريبيكا في توفيق أكبر قدر ممكن من الناس، لتواجهها انتقادات حول زعزعة المشروع للنظام الاجتماعي والأسري، وتوسيع حلقة الشرخ بين العائلات المنهارة سلفًا أو المتزنة، ما يسمح بارتفاع حالات الطلاق والوصايات على الأطفال والأبناء.

جاذبية الفكرة تستقطب الملايين من عامة الناس، حتى أفراد النظام والقانون لا يشكلون استثناءً. ومن هنا، فإننا نرى تأثير المشروع على جميع شرائح المجتمع، من منطق الحاجة العاطفية. غير أن هذا المنطق تشوبه حقائق متناقضة تفند صلاحية المشروع المطلقة، حيث مساحات نقدية وفكرية نلمسها من خلال الصراعات المتداخلة في حياة الشخصيات. فمثلًا، شخصية تشارلوت، المستشارة القانونية للشركة صاحبة التطبيق، والتي ترأسها بطلتنا، لم تتقدم بطلب عرض الشريك المثالي لها، فهي على علاقة مزدوجة مع رجل وامرأة في آن واحد، رغم عشقها لطرف ثالث خارج علاقاتها الثانوية. وهذا لا يفسره سوى جوهر الإنسان ونوازعه التي تتغلب على آلية عمل الجينات والأحماض النووية.

هذه الهشاشة المنطقية تخلق حالة توازن في الصراع الدرامي للمسلسل، وتعززها قصة مارك بيلي وزوجته هانا، وميغان الحبيبة التوافقية. فكلا الزوجين يهنآن بحياة لطيفة ودافئة، تتضح فيها علامات التفاهم والانسجام، إلى أن تدخل ميغان على حياتهما على يد الزوجة الفضولية التي تعكس لنا اختبارًا صادقًا يلج بنا إلى تفكير الإنسان وخياله ومخاوفه، فيثمر رهان الزوجة على التوافق الطبيعي غير المبرمج أو العلمي عن علاقة، كانت ناجحة، قبل أن يفسدها التحليل الجيني. قدرة الطبيعة الفطرية على فرض نفسها عند الإنسان تتوجها علاقة المحققة كيت سوندرز ذات الميول الجنسية المزدوجة bisexuality. فهي وإن دخلت التجربة وتوافقت مع فتاة من إسبانيا تدعى صوفيا، إلا أنها ستشير لنا إلى خلل في البرنامج، بعد أن تكتشف ميولها العاطفية تجاه شقيق صوفيا سيباستيان، وهذا الخلل ليس عيبًا في طريقة عمل التطبيق، وإنما سرّ يكشف في الحلقة الأخيرة، حيث يمكن أن يكون للإنسان أكثر من شخص متوافق جينيًا، وبدوره سيعزز هذا السر من التئام سير العناصر غير المكتملة في الحكاية المؤجلة للموسم التالي.

فجريمة قتل بن ناصر على يد ريبيكا، زميلته في السكن سابقًا، والتي تشكل العصب الرئيسي للأحداث وتفرعاتها، يخاط لها نهاية مؤجلة. وإن اتضحت حيثيات الجريمة ومعالمها مع تتابع الحلقات، إلا أن كلًا من ريبيكا، عالمة الأحياء، وصديقها جيمس، بعد وقوع الحادثة وموت بن ناصر عن طريق الخطأ بسبب شجار نشب فيما بينهم، ليسا سوى حدث درامي، لا يخدم الحبكة، بقدر ما يخدم التوصيف المتناقض في التعبير عن الإدراك والسلوك عند الإنسان، وحجم الازدواجية في تفسير المنطق الفطري والعاطفي لديه، إذا ما ووجه بحتمية الخيار وسببيته.

فريبيكا التي لم تختبر نظريتها القائلة إن "الناس لن يخضعوا للتحليل الجيني لو كانوا سعداء"، باعتبار أن علاقتها التوافقية مع حبيبها ماتيوس كانت التجربة الأولى للنظرية وبدورها كانت سببًا في خلافها مع بن ناصر، جعلت فيها من الغموض والتهميش ما يدفعها لتفضيل مصلحتها الشخصية على عواطفها، ولو لحين، وبالتالي فتح باب آخر للمساومة الأخلاقية أمام الفرضية العلمية.
وهنا، من منطلق الخيارات النفسية والعقلية التي تطبعها قرارات الإنسان وتصرفاته، ينجح العمل في خلق تصور سيكولوجي، ضمن وتيرة درامية منضبطة، يمثل أبعاد الحب وتناقضاته تمثيلًا يحاول كشف تجاذبات العاطفة أمام مد وجزر الواقع بشقيه الدرامي والإنساني.

المساهمون