"دويتشه فيله" وتهمة معاداة السامية... فصلان عنصريان

"دويتشه فيله" وتهمة معاداة السامية... فصلان عنصريان

0E29123B-74A8-4275-B27D-5F245E11C507
ليال حداد
صحافية لبنانية؛ رئيسة قسم المنوعات والميديا في "العربي الجديد".
07 فبراير 2022
+ الخط -

انتظرت "دويتشه فيله"، المؤسسة الإعلامية الدولية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، شهرين كاملين للإعلان عن فصل أربعة موظفين، ومتعاون من الخارج، من قسمها العربي، بعد تحقيقات قادتها وزيرة العدل الألمانية السابقة زابينه لويتهويزر شنارنبرغر، والأخصائي النفسي أحمد منصور، مع العاملين الخمسة، بتهمة التعبير عن "آراء معادية للسامية"، وذلك إثر ظهور منشورات أو مقالات قديمة لهم تنتقد الاحتلال الإسرائيلي. وفي مؤتمر عقده مدير عام الشبكة الألمانية بيتر لمبورغ بعد ظهر اليوم، أعلن فصل الموظفين الأربعة، وهم باسل العريضي، ومرهف محمود، ومرام سالم، وفرح مرقه، وفض التعاقد مع داود إبراهيم، بينما يخضع 8 عاملين آخرين للتحقيق حالياً بالتهمة نفسها وهي "معاداة السامية".

ومنذ لحظة الإعلان عن توقيف العاملين مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول، بدا أنّ قرار الفصل محسوم، خصوصاً أن المؤسسة اختارت شخصية إشكالية ومعروفة بمناصرتها الاحتلال الإسرائيلي، أي أحمد منصور، للتحقيق مع الموظفين.

لكن التوصيات التي رفعتها اللجنة لم ترتبط فقط بفصل العاملين، بل بدت أشبه بتقديم فرض طاعة، أمام الهجمة الإعلامية التي تعرّضت لها القناة. إذ نصّت بداية على توقيع اتفاق مع القنوات الشريكة (بينها قنوات عربية مثل قناة "الجديد" اللبنانية) ينص على "الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، وعدم معاداة السامية".

أما بالنسبة للعاملين في الشبكة بمخلتف أقسامها، فقد جاء في توصيات لجنة التحقيق أن إجابات العاملين الخمسة "كانت تحتوي على توجه واضح في معاداة السامية، وصولاً إلى نكران الهولوكوست، والتشكيك بحق إسرائيل بالوجود". وتابعت التوصيات بطلب تطبيق مجموعة من الإجراءات، بينها "إجبار الموظفين على محاربة العداء للسامية والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، على أن يصار إلى اعتماد فريق من الخبراء في رئاسة التحرير لتطبيق هذا الموضوع". ومن الإجراءات كذلك "توسيع مكتب القدس (المحتلة) وتفعيله لتصوير المزيد من التقارير هناك، بهدف إيصال صورة معتدلة وحقيقية عما يجري".

أما أحمد منصور، فانتقد بشكل مباشر في التوصية "معاداة السامية في القسم العربي، عبر برامج حوارية وإخبارية ووثائقية خلال العامين الماضيين، رغم أنه ليس هيكلياً بل مرتبط بأفراد"، مطالباً بتنظيم القناة "لدورات تدريبية وورشات عمل بهدف تدريب العاملين في القسم العربي".

ومع إعلان هذه التوصيات، قدّم ناصر شروف، رئيس القسم العربي في "دويتشه فيله"، استقالته.

قدّم ناصر شروف رئيس القسم العربي في "دويتشه فيله" استقالته

وعموماً لم يكن أي من الموظفين أو من المتابعين للقضية ينتظر قراراً مختلفاً، خصوصاً في ظل الحملة الضخمة التي رافقت القضية في ألمانيا، وتوزيع اتهامات "معاداة السامية" يميناً ويساراً ضدّ كل من ينتقد سياسة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته في فلسطين، وصولاً إلى امتناع القسم الألماني من منظمة العفو الدولية بداية عن نشر التقرير الخاص بالمنظمة حول الفصل العنصري الذي يمارسه الاحتلال ضد الفلسطينيين، ليعود وينشره  ليل الأحد الماضي، مع الامتناع عن إقامة أي نشاط أو مؤتمر صحافي مرتبط بالتقرير.

تفاصيل القضية

في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" تقريراً مطولاً، نبشت فيه تغريدات وتدوينات قديمة للعاملين الخمسة، وأبرزهم اللبناني باسل العريضي الذي يرأس مكتب القسم العربي في بيروت.

كذلك، تطرّقت الصحيفة إلى تدوينات أخرى لكل من الخبير في مجال إدارة الإعلام الصحافي داود إبراهيم، الذي يشارك في دورات تدريب تنظمها أكاديمية "دويتشه فيله" في بيروت، والمحرر في الشبكة مرهف محمود، والصحافية الفلسطينية مرام سالم، والصحافية الأردنية فرح مرقة التي اتهمت بكتابة مقالات معادية لإسرائيل في موقع "رأي اليوم".

 من هنا بدأت القضية، ليرتسم بعدها تسلسل الأحداث بشكل واضح، وفتحت مؤسسات إعلامية ألمانية النار على القسم العربي من "دويتشه فيله". ففي 3 ديسمبر/كانون الأول نشر موقع "فايس" بنسخته الألمانية تقريراً تضمّن لقطات شاشة (screenshots) لمنشورات سبق أن نشرتها قناة "رؤيا" الأردنية وصفت فيها الأراضي الفلسطينية  بالأراضي المحتلة. واعتبرت "فايس" أنّ هذه المنشورات "معادية للسامية" و"معادية لدولة إسرائيل". لتطالب بعدها القسم العربي من "دويتشه فيله" بوقف علاقة التعاون التي تربطها بـ"رؤيا"، وهو ما حصل. ففي 6 ديسمبر/كانون الأول، أعلنت DW أنها علقت التعاون مع قناة "رؤيا" الأردنية بسبب مخاوف تتعلق بما قالت إنه "محتوى معاد لإسرائيل ومعاد للسامية ورسوم هزلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها".
لم تبدُ حملة "فايس" مستغربة، إذ يرأس تحريرها حالياً فيليكس داخسيل، المؤيد الشرس للاحتلال الإسرائيلي، وقد عبّر عن ذلك في مقالات مختلفة، كما لم يتردد عبر حسابه على "تويتر" (أصبح محمياً حالياً) بالتعبير بشكل متكرر عن موقفه السياسي هذا، وعن كراهيته لحركة مقاطعة إسرائيل BDS.
سريعاً هبّت مؤسسات إعلامية أخرى لمؤازرة "فايس" في حملتها على "دويتشه فيله"، أبرزها صحيفتَا "بيلد" و"دي فيلت" الصادرتان عن دار أكسل شبرينغر. ولمن لا يعرف، فهذه الدار تحديداً سبق أن طلبت، بلسان رئيس مجلس إدارتها ماتياس دوبفنر، من الموظفين الذين لا يدعمون موقف الدار المؤيد لإسرائيل تقديم استقالتهم، وذلك عقب رفع الشركة في مقرها في برلين علم دولة الاحتلال مدة 11 يوماً خلال العدوان الأخير على قطاع غزة في مايو/أيار الماضي.

تحقيق "دويتشه فيله"

لم يكن عشوائياً اختيار الشبكة الألمانية أحمد منصور ليكون أحد المشرفين على التحقيق مع الموظفين الموقوفين عن العمل. فمنصور، وهو من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، يعرّف عن نفسه بأنه "عربي إسرائيلي"، ويسخّر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي للدفاع عن الاحتلال، واصفاً إسرائيل بـ"حلم اليهود للعيش بحرية واستقلال". انطلاقاً من هذا الواقع، حقق منصور مع الموظفين، إلى جانب الوزيرة السابقة زابينه لاوتهاوزر شنارنبرغر، طارحاً عليهم أسئلة حول التغريدات والتدوينات التي سبق أن كتبوها.
واختلف أسلوب التحقيق مع الصحافيين الخمسة، فبينما طلبت لجنة التحقيق طرح الأسئلة عليهم عبر فيديو كول، علمت "العربي الجديد" أن اللبنانيين باسل العريضي وداود إبراهيم (متعاون مع أكاديمية للتدريب DW في بيروت)، طلبا حضور محامين أو شهود لجلسة التحقيق، خوفاً من تسريب معلومات ووضعها خارج سياقها، كما حصل بالتغريدات أو المنشورات التي كانت موضع اتهام، وهو ما رفضته اللجنة، فطلبا تسجيل الكلام، ورفضت اللجنة هذا الاقتراح كذلك، لينتهي الاتفاق بإرسال الأسئلة عبر الإيميل، وهو ما حصل.
وركّزت الأسئلة على موقف الصحافيين من الصراع العربي الإسرائيلي، وحق إسرائيل بالوجود، والموقف من الهولوكوست، وغيرها من التفاصيل. وفي حديث مع "العربي الجديد"، قال إبراهيم إن التعاقد مع أكاديمية "دويتشه فيله" ينص على احترام القوانين مرعية الإجراء في الدول التي تقيم فيها ورشات تدريب، "والقانون اللبناني يعتبر إسرائيل عدواً، ونحن في حالة حرب معها، ولدينا أراضٍ محتلة، بحسب القانون نفسه، وهو ما أبلغته للجنة". ويشير إلى استخدام اللجنة أسئلة أشبه بفخاخ، من خلال تحوير أو اقتطاع تغريدات سبق أن كتبها، لتبدو كأنها معادية للسامية بالفعل.

الإعلام الألماني

جاءت حملة الضغط على القسم العربي من "دويتشه فيله" لتكمل مساراً مستمراً منذ سنوات، يلقي باتهامات "معاداة السامية" على وسائل الإعلام التي قد (قد فقط) تطرح علامات استفهام حول أداء الاحتلال الإسرائيلي أو حول عمل بعض المنظمات أو الجمعيات المؤيدة له في ألمانيا.

 ولعلّ المثال الأشهر يبقى ما حدث مع أبرز الصحف الألمانية، أي "دير شبيغل" التي نشرت في 12 يوليو/تموز 2019 تحقيقا مطولاً تناولت فيه الضغط الذي تمارسه الجمعية الألمانية اليهودية WerteInitiative وجمعية Naffo الموالية لإسرائيل، على مؤسسات رسمية ألمانية، لإقرار تشريعات عدة مرتبطة بإسرائيل، مثل تجريم حركة المقاطعة BDS وغيرها، وامتعاض بعض النواب الألمان من هذه الضغوطات. سريعاً ظهرت اتهامات معاداة السامية لتطاول الصحيفة والعاملين فيها، ما اضطر المؤسسة  في 15 يوليو/تموز 2019 إلى نشر رد على هذه الاتهامات، وأعلنت أن التحقيق جاء ضمن سلسلة تحقيقات عن جماعات الضغط المختلفة في البلاد.
ولا تخفي جمعية WerteInitiative أو "مبادرة القيم" محاولاتها للتأثير على الإعلام. إذ تشير عبر موقعها الإلكتروني إلى أنها "ملتزمة بتعزيز قيم الدستور الديمقراطي الليبرالي من منظور يهودي، من خلال تعزيز الخطاب السياسي والاجتماعي والإعلامي القائم على القيم، والمشاركة المدنية اليهودية في ألمانيا ودعم العلاقات الألمانية الإسرائيلية".
كل ما سبق يقودنا إلى واقع يزداد قتامة لناحية مناقشة القضية الفلسطينية في الإعلام الألماني، إذ يضيق هامش أي تعاطف ممكن مع الفلسطينيين، وتختفي النقاشات حتى الباهتة والمائعة منها، ويمنع التفاعل الحقيقي مع هذا الشأن، ما يؤسس لتحول إعلامي يستبعد الرواية الفلسطينية، ويخفيها عن الهواء وصفحات الصحف، ويمنع أي انتقاد للاحتلال الإسرائيلي حتى وسط عدوان دموي كالعدوان الأخير على غزة، كل ذلك تحت تهمة "معاداة السامية".

ذات صلة

الصورة
مؤتمر فلسطين

سياسة

قال مراسل "العربي الجديد"، اليوم الجمعة، إنّ شرطة برلين منعت انعقاد "مؤتمر فلسطين.. سنحاكمكم" الداعم للقضية الفلسطينية بأيامه الثلاثة نهائياً
الصورة
عزمي بشارة (العربي الجديد)

سياسة

قال المفكر العربي عزمي بشارة إن جهات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة تعمل منذ عقود بشكل منظم على تحويل التضامن مع الشعب الفلسطيني إلى حالة دفاع عن النفس
الصورة
المنتدى السنوي لفلسطين- اليوم الثالث (العربي الجديد)

سياسة

أكد باحثون، اليوم الاثنين، أهمية "المنتدى السنوي لفلسطين" باعتباره "رافعة مهمّة للبحث العلمي حول فلسطين والقضايا العديدة المرتبطة بها.
الصورة
مجسمات تحاكي معالم فلسطين في صنعاء (العربي الجديد)

مجتمع

تعيش فلسطين في قلب اليمن، تنبض حبّاً ودعماً، ولعل هذا ما دفع نشطاء إلى التعبير عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية بطريقة فريدة ولافتة.

المساهمون