"دوام كامل" لغرافِل: جودة إخراج صُورٍ فنية حزينة

"دوام كامل" لغرافِل: جودة إخراج صُورٍ فنية حزينة

04 أكتوبر 2021
اريك غْرافِل ولور كالامي وجائزتا "آفاق لا موسترا 2021": بؤس اليوميّ (مارك بيازكي/ Getty)
+ الخط -

 

في "دوام كامل" (A Plein Temps) للفرنسي إريك غرافِل، تتجلّى النظرة العميقة لعالم المرأة المُعيلة والكادحة، في الزمن المعاصر. يتأكّد أنّ التناول المُتكرّر والمُعالِج لأحد المواضيع ليس عيباً بحدّ ذاته، ولا يُعتبر مشكلة فنية، إنْ استطاع المخرج سرد حبكته بطريقة فنية فريدة وأصيلة ومقنعة. ربما لهذا السبب تحديداً، استحقّ غرافِل جائزة أفضل مخرج، في مسابقة "آفاق"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)".

يبدأ الفيلم باستيقاظ جولي (لور كالامي، جائزة أفضل ممثلة عن دورها هذا في المسابقة نفسها)، الأم العزباء التي تُجهّز ابنيها (9 و5 أعوام) لإيصالهما إلى منزل المُربية. لا تستطيع جولي العثور على زوجها السابق في أي مكان، ولا أنْ تُحصّل منه نفقات ابنيها، فهو يتجاهل مكالماتها ورسائلها. لحظة مغادرتها المنزل، تُعاني حظّاً عاثراً، وتحاول تلمّس طريق النجاة للخروج من مآزقها، وبلوغ برّ الأمان، عبر الأمل. في رحلة بصرية محمومة، يأخذ الفيلم طابعاً تشويقياً، يبدو أولاً كأنّه كليشيه مُملّ، لكنّه يبدأ في الاختلاف تدريجياً.

تعمل جولي خادمة بدوام جزئي في فندق باريسي أنيق (5 نجوم)، يبعُد نحو ساعة من منزلها. طول مدّة الفيلم (85 دقيقة)، تتأرجّح بين ارتباطاتها الشخصية، المتمثلة بالطفلين الشقيين، ووظيفتها المُتطلّبة. هذه الأم المُطلّقة امرأة عادية، كأخريات كثيرات. تسكن ضواحي باريس. تتنقّل كالبهلوان، من دون أدنى أمان، وسط حياة مهنية وأسرية مُهلكة: مربيّة تتعامل معها، وثلاّجة تملؤها، وملابس تكويها، وحياة تعيشها في قرية صغيرة، مع طفلين يحتاجان إلى وقتٍ وحبّ واهتمام. مادياً، هناك مشاكل جمّة: فواتير، ونفقات، وائتمانات، ومطاردات مصرفية، لا تمنحها فرصةً لالتقاط الأنفاس، بل تدفعها إلى التضحية بمتعها من أجل حياة لا ترحم.

تمضي حياتها على هذا النحو المُبكي. رغم دراستها العليا في الاقتصاد، وعملها السابق في التسويق، انتهت بتنظيف غرف النزلاء الأثرياء في الفندق. طبيعة عملها تُخفيها. يُلاحَظ أنّ كلّ جهودها للحصول على وظيفة أفضل تنتهي إلى لا شيء. رغم افتقارها إلى الحياة، تُدفع إلى المواصلة بحماسة رتيبة، وفي صمت وخنوع، كالسيارات التي تراقبها على الطرق السريعة في رحلتها اليومية بالقطار إلى باريس. في النهاية، الحياة بالنسبة إليها ليست سوى يوم عمل متواصل.

ذات يوم، يكاد الحظّ يبتسم لها. تجري مُقابلة عمل، تبدو واعدة، بخصوص منصب إدارة التسويق البحثي. عمل يُشبه وظيفتها السابقة. ورغم صعوبة توظيفها، تحافظ على اتزانها. لا تُظهر الضعف، وتفعل كلّ ما في وسعها للانتقال إلى الخطوة التالية، والحفاظ على الثقة. فالهدف واضح لها: التخلّص من وظيفتها ذات الدوام الجزئي، والحصول على أخرى بدوام كامل.

رغم حياتها العصيبة هذه، تتدبّر جولي أمورها قدر ما تستطيع. لكنّ هذا لن يستمرّ طويلاً، إذْ تتفاقم مشاكلها الشخصية والمهنية كثيراً، بسبب الإضراب العمالي في حركة النقل العام، الذي يشلّ باريس. خروج نظام النقل العام عن أدائه اليومي المعتاد يتسلل عنوة إلى حياتها، ويؤثّر على وتيرتها الآلية. بالنسبة إليها، وإلى غيرها أيضاً، يُفتح الجحيم أمامها بسبب إضراب القطارات. عليها أنْ تستقلّ سيارات مشتركة، وأنْ تعدو، وتعثر على حِيَل يائسة، وتخرق قواعد الوظيفة، وتتسوّل الخدمات، وتبتكر حلولاً مُرتجلة، وتمضي الليلة بعيداً عن طفليها. هناك أيضاً قسوة الطقس. دوامة تزداد سوءاً وفداحة بمرور الأيام، وتواصل الإضراب.

 

 

في "دوام كامل"، لا يدين إريك غرافِل الإضرابات العمالية، صانعة دراما الفيلم، أو النضال التاريخي، وحقوق الطبقة العاملة والنقابات العمالية، المُكتسبة منذ ستينيات القرن الـ15. مع ذلك، يُظهِر جانباً آخر من هذه الإضرابات، بالإشارة إلى الإزعاج الصارخ الذي يُعانيه الركّاب والمستخدمون اليوميّون للقطارات، وللمواصلات العامة، خاصّة أولئك الذين يعيشون في الضواحي. فهذا الوضع أفْقَدَ جولي وظيفتها الوحيدة، وباتت بعدها مُهدّدة بفقدان طفليها. يستخدم غرافِل وضعها كمدخل ورمز لفهم مدى هشاشة نظامٍ اجتماعي بكامله، والتنبيه إليه. مع هذا، لا تهدأ جولي، الديناميكية، ولا تستسلم أبداً.

باستفادته القصوى من الطاقة الاستثنائية لجولي، وعدم تخلّي الكاميرا عنها أبداً في تجوالها ومحنها، أنجز إريك غرافِل فيلماً يُثير الإعجاب بصرياً، لا لحظة سكون فيه، لأنّ جولي والكاميرا في حركة مستمرّة ومحمومة، أحياناً كثيرة. وَلَّدَ المونتاج (ماتيلد فان دو مورتَلْ)، السريع والحاد، إحساساً بالتسارع والذعر والتوتر الدائم، وضاعفت الموسيقى (إيرين دْرزٍل) هذا كلّه، تلك المتسرّبة إلى المُشاهد بشكلٍ لاشعوري. عوامل فنية تُحسب لغرافِل، من دون شك، إلى طريقته في السرد.

أدائياً، حملت لور كالامي عبء النهوض بقصّة عادية، لتشعّ على نحو غير عادي. من خلال اللقطات المُتتابعة من فوق الكتف، واللقطات المقرّبة، والتركيز على وجه الشخصية وجسدها، أبرز غرافِل أداءها المثير للتعاطف والمُرهِق للأعصاب في الوقت نفسه. كما أضفى عليه عمقاً عاطفياً رائعاً، يصدم بقوّة لفرط صدقيته. وعبر نظراتها الثاقبة والجذّابة، نجح في تفجير طاقاتها المغناطيسية. حتى عندما تصمت، متأمّلةً في وجودها مثلاً، يتألّق أداؤها. مجرّد تغيير طفيف في تعابير الوجه، يتمكّن الجمهور من إدراك ما يدور في ذهنها. هذا النوع من التواصل من دون حوار يندر في السينما المعاصرة. لذا، يستحقّ كلّ إشادة. ولعلّها ستنال بفضله جائزة "سيزار" كأفضل ممثلة، في النسخة الـ47 (مارس/ آذار 2022)، بعد تلك التي حصلت عليها في النسخة الـ46 (12 مارس/ آذار 2021) عن دورها في "أنطوانيت في سِفِن" (2020) لكارولين فينيال.

في "دوام كامل"، المُثير لأسئلةٍ كثيرة، لا خصم واضح ولا إدانة لشيءٍ. تعليق رائع على طبيعة الزحام والتوتّر والكبت، وغيرها من اضطراباتٍ تُغلّف حياتنا، العملية والشخصية. في الوقت نفسه، يتنكّر بشكل دراما إنسانية، لكنّه في العمق ينقل، عبر الدراما، دفقة مُرعبة من الانتقادات الاجتماعية ـ السياسية: ارتباكات وإضرابات واحتجاجات... إلخ. أما نهايته، فشبه مفتوحة. إنّها ليست سعيدة.

إجمالاً، في فيلمه الروائي الثاني هذا، قدّم إريك غرافِل صورة فنية حزينة وبائسة لحياتنا. صورة مُعاصرة جداً، وواقعية للغاية، تستدعي تعاطفاً أو غضباً.

المساهمون