"حلو مُرّ": توثيق متنوّع الأساليب لاستعادة ذاكرة وتاريخ

"حلو مُرّ": توثيق متنوّع الأساليب لاستعادة ذاكرة وتاريخ

24 يونيو 2022
مهاجرون أتراك في ألمانيا في ستينيات القرن الـ 20 (فيسبوك)
+ الخط -

 

"اسمك لحنٌ موسيقيّ. اسمك مثل الحبّ، مثل الشغف. إنّك امرأة جميلة وغضوب".

هكذا قدّمت المخرجة التركية دايديم شاهين شخصية جدّتها نِرمين، بكلمات هذه الأغنية التركية القديمة، في مستهل فيلمها الوثائقي الطويل "حلو مُرّ" (2021، 71 دقيقة). قيمته الأساسية كامنةٌ في أنّ قصة الجدّة تروي قصة الأتراك المهاجرين للعمل في ألمانيا، منذ ستينيات القرن الـ 20، وقصص مُهاجرين كثيرين أيضاً، مختلفي الجنسيات، للعمل في دول أخرى.

نِرمين امرأة طموحة، قويّة الإرادة، تنتمي إلى الجيل الأول من المهاجرين الأتراك في ألمانيا. إنها من الشيشان. هاجرت مع عائلتها إلى تركيا في صباها، والتقت شاباً قوقازياً، وقرّرت أنْ تتزوّجه، كأنّها "تقفز فوق ظهر حصان، لم تهبط من فوقه أبداً"، كما تصفها الحفيدة دايديم. زوج نِرمين موسيقار، يعيش حياة الشهرة في تلك الستينيات. موهوبٌ، يعزف على آلات موسيقية مختلفة، ويعمل مع أشهر مطربي تلك الحقبة، كما يعزف في الإذاعة التركية على آلتي الفيولينة والعود.

مع ذلك، ورغم أناقتها ومشاركتها معه، لم تكن نِرمين سعيدة بهذا الأسلوب من حياة الشهرة، الذي تعيشه مع زوجها. كانت قلقة، وظلّ هذا مصدر خوفٍ، وتفكير مُستمرّ في مستقبل بناتها الثلاث. لذلك، انتهزت فرصة إعلان ألمانيا، عام 1963، عن طلبها عمالاً، فعهدت ببناتها إلى الزوج، واستقلّت القطار المظلم من إسطنبول إلى ألمانيا، مع وعدٍ بالعودة لاصطحاب العائلة.

آنذاك، كانت ألمانيا تُرحّب بالعمال المهاجرين، الذين أقاموا في مُخيمات، أو في بقايا معسكرات نازية سابقة. بعضهم عمل في التعدين والمصانع والشركات، بينما عملت نِرمين في الحياكة، التي كانت تجيدها بمهارة، ثم افتتحت مكتباً للسفريات، وعملت لاحقاً رئيسة طهاة، قبل تأسيسها مطعماً خاصاً بها، عُرف بـ"ماما نِرمين"، لم يكن يخرج منه أحدُ جائعاً، وإنْ لم يكن يملك مالاً. كان المطعم مشهوراً، وبات مقصداً للمهاجرين والفقراء.

نِرمين شابّة لا تعرف القراءة والكتابة، بل مجرّد كلمات بسيطة. لكنّها قرّرت الهجرة إلى بلد غريب عن لغتها وثقافتها، لتصنع مُستقبلاً لأطفالها. لذا، منذ اللحظات الأولى، تقصّدت في أكلها، وعملت أوقاتاً مضاعفة، ليلاً ونهاراً، لتوفير المال الكافي لإحضار بناتها للعيش معها. بعد عامين، تمكّنت من إحضار أصغر بناتها، ثم أرسلتها إلى المدرسة. لكنّها كانت متغيّبة عنها كلّ الوقت في العمل. جرّاء الوحدة، أصيبت الطفلة بمرضٍ، اضطرّها أنْ تبقى للعلاج في الغابة السوداء، على بُعد ساعتين بالسيارة. هناك، ظلّت برعاية الراهبات، وكانت نِرمين تزورها أسبوعياً. لاحقاً، يمكن الربط بين هذه الظروف في الطفولة، حيث الحرمان المفاجئ من الحنان (مرة من الأم، ومرة من الأب والشقيقتين)، وهشاشة شخصية الابنة، وتلقّيها العلاج النفسي، حتى بعد بلوغها 60 عاماً، وبكائها المرّ طويلاً عند معرفة مرض والدتها.

الفتيات الثلاث متميّزات، لكنّ الحفيدة، مخرجة "حلو مُرّ"، ترى أنّ خالتها الوسطى أقربهنّ إلى الجدّة، بقوّة الشخصية والإرادة، إذْ سافرت للعمل والحياة في منطقة "دورتموند"، المشهورة بالتعدين. ربما هذا ما سبّب مرضها لاحقاً، وهي عملت أيضاً لتُؤَمّن مستقبل ولديها، لكنّها لم تدخر جهداً في مساعدة العمال المهاجرين والمتظاهرين ضد ساعات العمل الطويلة، والأجور القليلة جداً، خاصةً في سبعينيات القرن الـ 20 وثمانينياته.

تفاصيل كثيرة تُؤكّد أنّ هذه الشابة موهوبة، حتّى قبل حصولها على رخصة الترجمة. مع ذلك، ستكون نهايتها دراماتيكية، فرغم البهجة كلّها، التي حاولت إضفاءها على حياة الآخرين والمهاجرين، لم تستطع إنقاذ نفسها من سرطان استشرى في جسدها، مُخلِّفاً آثاراً نفسية سيئة في ذاكرة نِرمين.

والدة المخرجة، الابنة الكبرى لنِرمين، عملت في شركة، واختيرت ملكة جمال تركيا، ونُشرت صُورها في الصحف التركية وهي تضع التاج الملكي. كان مُقرّراً لها العمل في السينما، فصوّرت فيلماً مع أشهر مخرج سينمائي تركي آنذاك. لكنّها أنهت مسيرتها فجأة، حتّى قبل أنْ تبدأ، فتزوّجت، وأنجبت ابنتها دايديم، وبعد إنجابها ابنها، قرّرت العودة إلى تركيا لتربيتهما بعيداً عن عبء الازدواج الثقافي، الذي يعانيه أبناء المهاجرين.

 

 

تعترف دايديم شاهين أنّ سؤالاً ظلّ يؤرقها، أعواماً عدّة: سرّ قرار الأم بالعودة إلى الوطن. لم تستوعب ذلك إلا تدريجياً، وربما متأخّرة، إذْ تعترف أمها قائلة إنّ عملها كان صعباً ومُرهقاً، "بل قذراً"، مستعيدة ما كان يقال للعمال حينها: "إذا كنتَ تحبّ هذا العمل، قُمْ به. وإذا لم يكن (يُعجبك)، ارجعْ إلى بلدك". هنا، تحاول والدة المخرجة شرح الوضع، من دون إلقاء اللوم على أحد: "ألمانيا لم تكن مُلامة على ذلك، ولا تركيا أيضاً. الأولى كانت محتاجة إلى العمال، خاصة بعد موت رجال كثيرين في الحرب؛ وتركيا كانت محتاجة إلى العملة الأجنبية. لذلك أرسلني بلدي إلى الخارج، فتمّ التعامل معي كطفل ربيب، أي كابنة الزوج أو الزوجة. كنت دائماً كطفل يجلس بلا قيمة. كانوا يُطلقون عليَّ اسم الأجنبية".

ثم تستعيد الابنة الكبرى واقعة الشاعرة المهاجرة، التي أشعلت النيران في جسدها، عام 1982، في ميدان "هامبورغ"، بعد أنْ كتبت رسالة تقول فيها: "أريد معاملة إنسانية من الألمان. أريد معاملة من دون ظلم"، لكن أحداً لم يُنصت إليها. ربما هذا يُفسّر قرار الإصرار على العودة إلى تركيا، لتربّي ولديها هناك.

يتوقّف "حلو مُرّ" عند لحظات خاطفة من التاريخ، لكنّها مضيئة: أزمة البترول العالمية (1973)، واحتجاجات العمال حينها، ورفض ألمانيا هذا الاحتجاج، وبداية الطرد الجماعي للعمال المهاجرين. في تلك الفترة، لم تعد ألمانيا ترغب في العمال الأتراك، خاصة في الثمانينيات، والتعامل معهم على أنهم عمال وضيوف، لأنها كانت ترفض رفع أجورهم، وبدأت تضع شروطاً مشدّدة للحصول على تأشيرة دخول إليها.

تُقدِّم دايديم شاهين لقطات كاشفة عن عودة النازية، تتمثّل بحرق منازل العمال المهاجرين، وبعض العمال، في مدنٍ عدّة، ما أثار الخوف في نفوسهم، فكانوا يتساءلون: "مَنْ سيكون التالي في الحرق؟". كما تتناول موقف أبناء المهاجرين الأتراك في برلين، الذين أنشأوا "غيتو" لهم، وتكاتفوا معاً. وعندما تظاهروا، أثاروا صدى عالمياً. لكن ذلك لم يمنع تزايد النازية، خاصة في التسعينيات الماضية.

تكتمل هذه التراجيدية التركية، التي تُجسّد فصلاً مهمّاً من تاريخ العالم، بالحديث عن الجَدّ، الموسيقار فكري، الذي استجاب لدعوة نِرمين، وحضر لاحقاً إلى ألمانيا، ليجتمع شمل العائلة. لعله فعل ذلك فقط من أجل بناته، لكنّه لم يحتمل الحياة الألمانية الباردة، ولم ينسجم مع وظيفته الجديدة كنجّار، مُعتبراً أنّها بلا معنى، فأصابه الاكتئاب. كأنّ روحه المرهفة الحسّاسة كفنان لم تحتمل، فاختفى نهائياً في صباح أحد الأيام، عام 1979، تاركاً مؤلّفاته الموسيقية.

للمخرجة دايديم شاهين مهارة في توظيف مُعادل بصري يُعبّر عن ضبابية الذاكرة، وبرودة الحياة، في لقطات عدّة. الزمن السردي في "حلو مُرّ" كأنّه يمتدّ طوال رحلة القطار، التي قامت بها الحفيدة من إسطنبول إلى ألمانيا، لتفاجئ جدّتها المريضة بزيارتها، ولتحاكي رحلتها في الستينيات، مُستعينة بالأرشيف الخاص بنِرمين: لقطات فوتوغرافية، فيديو، مقاطع سمعية. فالجدّة مُغرمة بالتصوير، كأنّها توثّق حياتها، ولا تكتفي بذاكرتها الحديدية، التي خانتها بالفعل. كأنّها تحاول القبض على الزمن وتجميده. بينما تعترف الحفيدة بأنّ جدّتها ربما اختارت النسيان عمداً، لأنّها لم تعد تحتمل كلّ تلك المآسي. نِرمين تتذكّر كلّ شيء، بأدقّ التفاصيل، ودايديم تعترف بأنّها صارت مخرجة وثائقية بفضل جدّتها، وأسلوبها في الحياة والتوثيق، وبفضل تأثير شخصيتها عليها منذ طفولتها، وبفضل مفاجآت عدّة كانت تقوم بها وتُبهرها.

هذا كلّه يطرح تساؤلات: رغم هذه المأساة العائلية، ماذا لو ظلّت نِرمين في تركيا، وعاشت في كنف زوجها الفنان، ولم تنتهز فرصة السفر إلى ألمانيا؟ صحيح أنّ الثمن المدفوع لهذه الرحلة كان غالياً، لكنْ، أليس هذان الثمن والألم ما يصنعان شخصية الإنسان وتفرّده؟

المساهمون