"جسر الرئيس" وفوتوغرافيا الرعب

"جسر الرئيس" وفوتوغرافيا الرعب

06 مايو 2022
يريد النظام لهذه الصور أن تكون صامتة (لؤي بشارة/فرانس برس)
+ الخط -

لا توجد كلمات كافية للتعليق على صور السوريين الذين اجتمعوا تحت "جسر الرئيس" في دمشق. هذا التجمهر لم يسبق له أن حدث خلال السنوات العشر الماضيّة، إلا في المسيرات المؤيدة لبشار الأسد، والتي كانت صورها تؤكد رسالة، مفادها أن لا شيء يحصل، وأن السوريين انتصروا على المؤامرة.

لكن الحشد الذي رأيناه في الثالث من الشهر الحالي يبدو عليه الذهول، ويسيطر الرعب على ملامح المتجمهرين؛ إذ ينتظرون أن يخرج أخ أو أب أو ابن من "المسلخ البشري"، الاسم الذي أطلقته منظمة العفو الدولية على سجن صيدنايا سيئ السمعة في ريف دمشق.

تزامن العفو الرئاسي الذي أصدره بشار الأسد، مع الكشف عن مجزرة حي التضامن عام 2013 التي أشعلت في ذاكرة السوريين عنفاً وصوراً مضى عليها سنوات. تلك الصور المسرّبة سرّاً يقابلها صور لجمهرة علنيّة. أناس من مختلف أنحاء سورية تجمعوا ينتظرون الحافلة التي قد تحوي أو لا تحوي من "فُقدوا" من دون أثر، أولئك الذين من المفترض أن يشملهم العفو، لكن بعض الذين أفرج عنهم كان قد أعلن النظام السوري موتهم، وسلم ذويهم هوياتهم، أي يمكن القول: في سورية الموتى قد يعودون إلى الحياة.

تعكس الصور واحدة من أشد "مهارات" النظام السوري استنزافاً للكرامة، ألا وهي القدرة على حشد الناس خوفاً ورعباً، فمن في الشارع ينتظرون يقيناً ما، إذ لا قوائم رسميّة بمن أفرج عنهم. حيرة تعتلي الأوجه تحت عدسة كاميرات المحترفين وهواتف الهواة. لا يعلمون بدقة ما الذي عليهم فعله: أينتظرون؟ أيغضبون؟ أيشتكون؟ الحشد في التكوين هذا اعتباطيّ، تحركه الرغبة بالتيقن والإجابة عن سؤال بسيط: هل من اختفى ميت أم حي؟ هذا بالضبط ما تسأله إحدى الأمهات في مقابلة مصورة بثتها إذاعة "شام إف إم" على صفحات موقع فيسبوك، ثم حُذفت لاحقاً خوفاً من بطش أجهزة الأمن.

يريد النظام السوري، إذن، لهذه الصور أن تكون صامتة، لا نعلم ما يحدث بين الناس المحتشدين، والأشد بثاً للذعر هو صور الذين أفرج عنهم، أولئك الذين يتلقفهم الحشد رافعاً أمام أعينهم الغائرة صور "مُغيبين" آخرين، علهم، أولئك الذين نجوا، يذكرون مصير من كان معهم في "المسلخ البشريّ".

الصورة الفوتوغرافية، إن تبنينا تعريف رولان بارت، "علامة على ما كان". لكن حين نقارن صور من أفرج عنهم بصورهم قبل الاعتقال يبدو الاختلاف شديداً. لم يعد الداخل نفس الشخص الذي خرج. فقدان الذاكرة وشدة التعذيب وتزعزع الأنا ينفي عن صاحب الصورة هويته، لتصبح الصورة قبل الاعتقال تمتلك تعريفاً جديداً: "هذا ما كنته، هذا ما لن أتذكره".

التعاطف مع الأهالي المجتمعين تحت الجسر من قبل الموجودين خارج سورية، أعاد ذاكرة الاعتقال للكثيرين ممن نجوا، حتى الذين لم يعتقلوا تعاطفوا، وتحدثوا عن عجزهم عن تصور مشاعر من يقف بين الزحام. نستعيد هنا تعريفاً آخر للصورة من بارت: "هي كل ما لست أنا فيه"، لكن أيضاً هذا التعريف لا ينطبق. "الكل" في هذه الصور يرى نفسه بين الجموع.

حفرة التضامن تتطابق مع حفرة صيدنايا، والحفرة الكبيرة التي تسمى "سورية". وكأن من نجا أمام هذه الصور، يعود إلى المكان نفسه، وينتظر أيضاً يقيناً ما، ويطرح سؤال: "هل نجوت فعلاً؟".

اللافت أيضاً أن التجمع في سورية غير قانوني. لكن لم يُفضّ هذا التجمهر، بل ترك الناس على حالهم، يدللون الخوف والأمل، ويعطلون حركة السير، والأهم، على مسافة لا تزيد عن بضع مئات من الأمتار، هناك أفرع الأمن، تحوي أقبيتها معتقلين آخرين. وهذا أيضاً واحد من تقنيات الرعب: القدرة على إباحة التجمهر في أي مكان، ثم فضّه، أي يمكن كسر القانون في أي لحظة، ليس خوفاً من رد فعل الناس، بل تأكيداً على أن القانون وتطبيقه شأنان اعتباطيان، الهدف منهما استعراض القدرة على إذلال الجموع، ليس فقط الأفراد، وجعلهم كتلة متجانسة صامتة، تنتظر ميتاً قد يعود إلى الحياة.

المساهمون