"المأوى الأخير": نشيد سينمائي لفضاءٍ لامتناهٍ

"المأوى الأخير": نشيد سينمائي لفضاءٍ لامتناهٍ

09 يونيو 2021
"المأوى الأخير": فظاعات تجربةٍ وخيباتها (الملف الصحافي)
+ الخط -

كما الصحراء غامضة، يُحيط المخرج المالي أوسمان ساماسيكو حكايات اللاجئين، العالقين في فراغ الصحراء الأفريقية الكبرى، بغموض. لا يستجوبهم، ولا يستفزّ وجودهم بكاميرته (تصويره، إلى جانب الإخراج). يكفيهم صمتهم، ويكتفي هو به. لم يأتوا إلى الصحراء بطراً. مَنْ عاش في كنفها، يعرف أنْ لا أحد يأتي إليها، ويقتحم عزلتها، إلاّ من لفظته أماكن أقسى منها. وسط مساحات رملية شاسعة، يظهر في مشهد افتتاحي ـ يلفّه الصمت، وتخترقه موسيقى تصويرية عاوية، كأنّها أصوات رياح معدنية (موسيقى بيار دافين ـ كيلّر) ـ رجالٌ يبنون قبوراً دوارس، يضعون فوقها شواهد معدنية صدئة، تحمل أسماء وتواريخ محتملة. تقترب الكاميرا من اسم أماندو، ثم تتركه لتذهب مع الرجال إلى بيتٍ يقع على حافة الامتداد الحضري لمدينة غاو المالية، في جنوب غرب الصحراء الكبرى. قطعة معدنية، عُلّقَت على واجهته، تُدلّل الكلمات فوقها عليه: "كاراتاس ـ غاو بيت اللاجئين".

بيتٌ بُني بطوب، وبعض بقايا قذائف أسلحة فارغة. سطوحه ملوّنة بلون مياه البحر، زرقاء هادئة. مكان يسميه ساماسيكو "المأوى الأخير" (2021) ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم في الدورة الـ18 لـ"مهرجان كوبنهاغن دوكس الدولي للفيلم الوثائقي"، المنعقدة افتراضياً بين 21 إبريل/ نيسان و2 مايو/ أيار 2021 ـ يقع تماماً على حافة منتصف اللامكان.

من قلب الظلام، تخرج فتاتان، وتتّجهان إلى المنزل. في الصباح، يسأل رجلٌ يُدعى ايريك كامديم ـ يفترض به أنْ يكون أحد المُشرفين على المكان ـ الفتاة أستر عن عنوان بيتها في بوركينا فاسو، أو عمّا إذا كان لديها رقم هاتف أحد أقاربها، يمكنهم الاتصال به في حال حصول شيء لها. الـ"شيء" يعني الموت في هذا المكان، كأولئك الذين تعرّضوا له قبلاً، وأمس وضع الرجال فوق قبورهم شواهد بأسمائهم، بعد طول بحث.

بيت كاريتاس ثنائي التكوين: مرة، يكون نقطة عبور لأولئك الذين يريدون قطع الصحراء، للوصول إلى دول أفريقية ساحلية (الجزائر من أنشط وجهاتها)، ومنها يذهبون إلى أوروبا؛ ومرة أخرى، يغدو "مأوى أخير" للذين أخفقوا في مغامرتهم، واضطرّوا إلى العودة إلى النقطة نفسها التي انطلقوا منها. في المرّة الأولى، يأتي الناس إليه محمّلين بأثقال وأعباء أمكنة عاشوا فيها، ولم يطيقوا المكوث فيها أكثر؛ وفي المرّة الثانية، يعودون إليه وقد استلَبَت منهم المغامرة كرامتهم وأحلامهم. البيت يتأثّر دائماً بحركتين: خارجية، الصحراء مركزها، وبحركة بشر يبدون ـ حتى وهم فيه ـ كأنّهم معلّقون في فراغ.

 

 

الوجود السينمائيّ في المكان يريد التقاط الاتجاهين، أو هكذا يقترح ساماسيكو لفيلمه أنْ يكون جامعاً لهما، في سرد بصري يقارب وجودهما المشترك. فلا معنى كثيراً عنده في تصوير جماليات الصحراء بتجرّد فني، ولا تفرّد يمنحه الاكتفاء برصد حركة اللاجئين في البيت، واستقصاء عيشهم فيه.

ما ينشده السينمائي أبعد من ذلك بكثير. يريد نقل المشهد الجديد، المُتشكِّل من الوجود الطبيعي للصحراء، ومن حركة البشر فوق رمالها. ينطلق من فكرة. يأخذ من كلّ طرف ما يُغني متنه، ويضفي جمالاً عليه. من الصحراء، يأخذ جمال تكوينات رمالها، وألوانها المتغيّرة وفق حركة الريح، والشمس والقمر. لا يُعامِل وجودها بصرياً كـ"رابط" مونتاجي بين مقطعين. المشهديات الطبيعية الرائعة، المُلتقطة بعدسات حسّاسة، تزكّي فاعليتها السينمائية. قساوة الصحراء ونيران رمالها تعطي لحكايات الماشين فوقها عمقاً ومعنى.

فظاعات التجربة وخيباتها تُحيل المنزل البسيط إلى مركز تأهيل روحي ونفسي للواصلين إليه. الرغبة في الخلاص من بؤس العيش لا تُفتر حماسة الراغبين في الخروج منه إلى جهات واعدة، تُنسيهم ما عانوه في أوطانهم من فقر وذل. هدوء المكان، بعد رحلات خطرة وشاقة، تجعله منتجعاً لراحة الأجساد المتعبة، والزمن الذي يمضونه فيه ينسج لهم خيوطاً غير مرئية، تُعينهم على النزول من الفراغ المُعلّقين فيه. علاقات مكان عابرة تتشكّل لمقاومة الضجر، وتبديد المخاوف. قساوة ما عانوه تدفع بعضهم إلى العودة إلى أوطانهم، وآخرون يمنعهم الخجل من خيباتهم مُقابلة من ساعدهم على الرحيل ثانية. باع هؤلاء من أجلهم كلّ ما عندهم، ليدفعوا لمُهرّبين أنذالٍ، تركوهم في منتصف الطريق نهباً لمسلّحين من "القاعدة"، أو قُطاع طرق. باع تجار بشر وسماسرة أجساد بناتهم، وضاع من ضاع منهم في الطريق.

لن تُبطل الوقائع المؤلمة حماسات الرحيل وأحلام الخلاص. في منتصف الليل، تُغادر الشابتان البيت إلى قلب الظلام، كما جاءتا منه. يُهدي ساماسيكو فيلمه إلى عمّه أمادو (الاسم الظاهر فوق شاهدة القبر في مطلع الفيلم)، ذلك الذي خرج من بيته قبل أكثر من ثلاثين عاماً، ولم يرجع إليه. بتكتّمه عن تلك العلاقة، وعمق صلتها بمنجزه السينمائيّ، يُنشد إبقاء الشخصيّ هامشياً، لأنّ ما فيها من مرارة، كما بقية القصص، تكفي ليكتب عنها نشيداً سينمائياً حزيناً.

المساهمون