"الغريب" و"فرحة": جدّية وصدق وحداثة واهتمام بالتفاصيل

"الغريب" و"فرحة": جدّية وصدق وحداثة واهتمام بالتفاصيل

24 نوفمبر 2021
أمير فخر الدين وأشرف برهوم و"الغريب" في "لا موسترا 2021" (ماريا موراتّي/ Getty)
+ الخط -

 

تاريخياً، تُعاني السينما العربية نقصاً في الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، رغم مصيرية الصراع وأهمية القضية وإنسانيتها، وكثرة المواضيع والقصص، وتنوّعها وغناها.

في إنتاجات هذا العام، الصراع نفسه محورٌ لفيلمين عربيين، لشابين سوري وأردنية. الأول مُصوَّر في مرتفعات الجولان المحتلّ، في المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين إسرائيل وسورية ولبنان. منطقة منسية سينمائياً، رغم الثراء الدرامي الموجود فيها، وأماكن التصوير البكر. الثاني يعود إلى بداية النكبة العربية، عقب انسحاب القوات الإنكليزية، وملء قوات الاحتلال الإسرائيلي هذا الفراغ، وتقاعس القوات العربية، ما أدّى إلى وقوع "النكبة"، أو "نكبة 48". هذه أيضاً فترة نادراً ما اقتربت وتقترب منها الأفلام العربية.

قصة "الغريب"، أول روائي طويل للسوري أمير فخر الدين (1991) كتابة وإخراجاً، بسيطة، لكنّ الفيلم أوسع منها. يصعب على بُنية القصة تحمّل ثقل الأبعاد الوجودية والنفسية التي تتضمّنها. الفيلم محاولة لتقديم شخصٍ غريب عمن حوله، يعاني أزمة أحبطته، وتركته حُطاماً، وجعلته غير مرغوب فيه من أسرته ومحيطه الضيق ومجتمعه.

بعد افتتاح هادئ وغامض ـ يُشير فوراً إلى التوق إلى مبارحة المكان، والهجرة بعيداً عن مرتفعات الجولان المحتلّ، إلى باريس أو برلين أو غيرهما ـ يظهر أبو عدنان (محمد بكري) وهو يوصي بحرمان ابنه الوحيد من الميراث في وصية مكتوبة، بما في ذلك منزله وبستان التفاح. عدنان (أشرف برهوم) يكاد لا يتحدّث إلى والده. شعور العداء المتبادل بينهما قوي، لكنّ بواعثه غير واضحة كلّياً. لم يستكمل عدنان دراسة الطب في موسكو، لأسبابٍ مُبهمة بعض الشيء. الشاب سكّير، تبلغ حالته درجةً سيئة، يضطر صهره فيها إلى تهديده بتطليق شقيقته، التي يعرف أنّها تحبّ زوجها كثيراً، ولا تريد تركه.

بسبب شعوره بالإخفاق والفشل، ينأى عدنان بنفسه عن زوجته ليلى (أمل قيس) وابنته (قمر حليحل). الزوجة والابنة توحيان بالأمل. أمل وحيد ربما لاستعادة عدنان رشده، ونفض ثقل الماضي وصدماته وإرث النظام الأبوي عن كاهله، والبدء مجدّداً. لكنه لا يستطيع التوافق مع أصدقاء قلائل حوله، ولا مجاراة أموره مع جنود الاحتلال، المنتشرين في كلّ مكان.

"إلى متى يمكن لأيّ شخص أنْ يعيش في ظلّ شخص آخر؟"، تقول زوجته. يعيش عدنان في ظلّ والده، وضغط مجتمعه، ومأساة احتلال بلده، فيحتسي الخمر من دون توقّف. يكتفي بالاعتناء بالمزرعة، وبالحيوانات القليلة المتبقية فيها، التي تبدو صورة طبق الأصل منه. بقرة يختلط الدم بلبنها، وكلب بثلاثة أرجل، لا يستطيع الدفاع عن نفسه ضد الحيوانات الأخرى، الأكثر عدوانية.

تأخذ حياة عدنان منعطفاً درامياً، عندما يتعيّن عليه مساعدة أحد الجنود الغامضين، المُصاب في الحرب السورية. يُهرّبه ليلاً عبر السياج الحدودي بمساعدة صديقين، ويحاول يائساً تضميد جراحه المميتة، ما يجعله يستعيد نفسه وماضيه ومهنته وإنسانيته، ولو لساعاتٍ قليلة.

"الغريب" ـ المُشارك في الدورة الـ18 لـ"أسبوع النقاد"، في الدورة الـ78 (1 ـ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ فيلم شخصي، ينقل الشعور بالعجز والخواء لدى شخص لا يزال يكابد مأساة وطنه، ومع ذلك، لا يستطيع فعل شيء من أجله، ولا من أجل نفسه وأسرته. الفيلم استعارة شعرية كئيبة للغربة، التي يشعر بها أيّ إنسان، في المستويات كلّها، عندما يعيش في الأسر.

في "الغريب"، تمتد سماء الخريف فوق المرتفعات الخلاّبة للجولان المحتلّ. تتساقط أوراقه، وينضج التفاح ويُحصد. تغمر الأمطار الأرض، التي تفيض بالأوحال. المناظر الطبيعية مُوظَّفة في الفيلم بمهارة تخطف الأنفاس. يُمكن للمُشاهد أنْ يشعر بأجواء ترقّب وتوتّر، وموت وحياة، وبداية دورة ونهاية أخرى. وربما بما هو أضخم وأخطر.

يصعب على المُشاهد المتمرّس، مع توالي مشاهد "الغريب"، أنْ يتجنّب ذلك الانطباع المتكرّر بأنّ الفيلم يحمل بصمات بصرية لأفلامٍ عدّة في تاريخ السينما، كما موضوعه وطريقة معالجته، والخاتمة المزعجة جداً. مخرجون عديدون، أمثال ثيو أنغلوبولس وأندريه تاركوفسكي وبيلاّ تار وغيرهم، حاضرون بقوّة. أحياناً، تُنقل حرفياً مَشاهد من أفلامهم، بدلالاتها الرمزية أيضاً، كالتفاح والضباب. هذا يُلقي بظلاله على أصالة المخرج، رغم جدية وصدق طموحه الفني، والجماليات البصرية المبتغاة، ما يُحتّم عليه تجنّبه في أفلامٍ مقبلة، وإيجاد صوت ورؤية وخبرة خاصة به، لا سيما أنّه موهبة سينمائية جادة وواعدة، وصاحب رؤية فنية وبصرية لافتة للانتباه.

 

 

الأردنية دارين سلام (1987) استوحت أحداث أول روائي لها، "فرحة"، من وقائع حقيقية جرت في فلسطين مع نكبة 1948. الفيلم شهادة صادقة عن جزء ضئيل من وقائع ما جرى ولم يُروَ، بدءاً من النكبة إلى اليوم، بتصويره التاريخ الفلسطيني كاستعارة مُكثّفة، بعينيّ مُراهِقة ذكية وعنيدة، تأبى الاستسلام.

فرحة (كرم طاهر)، ابنة الأعوام الـ14، سُلب منها حلم التعليم الرسمي والتخرّج، ثم العمل بالتدريس والانتقال إلى المدينة، بعد أنْ تعقّدت الأحداث مع دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى بلدتها، ما دفع والدها كامل (أشرف برهوم)، مختار البلدة، إلى حبسها في حجرة التخزين، أسفل المنزل، خوفاً عليها، واعداً إياها بالعودة في أقرب وقت. من الحجرة المُقيمة فيها، تراقب فرحة انهيار العالم الذي تعرفه، وعليها العثور على القوة فيها للاستمرار، رغم ظروفها الأليمة.

تعتمد فرحة على عصير المخلل للأكل والشرب، وتستخدم أكياس البطاطا للنوم. تتلصّص على ساحة البلدة من شقوق في الباب، ومن بين الحجارة. يمرّ منخرطون عديدون في الصراع قرب المنزل. تستعرض أسوأ ما في الإنسانية، إذْ تُقتل عائلات أمامها على أيدي الجنود الإسرائيليين. في فترة اختبائها، ظهرت شخصيتها الحقيقية: فتاة اعتقدت أن أكبر صراع لها سيكون إقناع والدها بإرسالها إلى المدينة، لإكمال تعليمها. تبرز معاناتها المزدوجة: عدم قدرتها على إنقاذ نفسها والخروج من حصارها في القبو، وعجزها عن مساعدة الذين يُقتلون، ويُنكَّل بهم أمامها.

"فرحة" ـ المشارك في قسم "اكتشافات"، في الدورة الـ46 (9 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 2021) لـ"مهرجان تورنتو السينمائي الدولي"، والمُختار رسمياً في الدورة الـ16 (14 ـ 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان روما السينمائي الدولي" ـ جيّد سردياً، باستثناء جزئه الأول، أي تقديمه وتقديم شخصيتي فرحة ووالدها. بالإضافة إلى قصة تعليمها، وحلمها بالمدينة، والعريس والزواج... إلخ. هذه خيوط، كان يُمكن اختزالها إلى دقائق قليلة، واستغلال التمهيد لإعطاء خلفية أكبر عن الأحداث والشخصيتين. مع سرد الأحداث الأخرى، يُصبح الفيلم أكثر انضباطاً ودقّة وتكثيفاً واهتماماً بالتفاصيل، ما يزيد من التفاعل مع الأحداث الجذّابة.

في "فرحة"، تُكتَشف مخرجة موهوبة، تجهد في إمساك موضوعها والسيطرة عليه. تهتمّ كثيراً بالتفاصيل: الديكور والإضاءة والملابس والصوت. هناك تحوّل لافت للانتباه، من أسلوب تصوير أكثر كلاسيكية، يشبه المسلسلات، إلى تركيبات ولوحة ألوان أكثر سينمائيةً وحداثةً، خاصة بعد انتهاء القسم الأول. كما تتجلّى موهبتها في اختيارها الرائع ممثلة واعدة ومقنعة في تأدية ما كابدته فرحة. برز هذا أكثر مع حصر الأحداث في حجرة، وإثارة شعورٍ بضيق البطلة واختناقها، وبورطتيها، الداخلية والخارجية. اللحظات الخانقة تتداخل مع لحظات أخرى من التأمّل.

المساهمون