"الحصلة"... جدلٌ يحول دون نقد الخيارات الفنية للوثائقي المغربي

"الحصلة"... جدلٌ يحول دون نقد الخيارات الفنية للوثائقي المغربي

26 أكتوبر 2020
المخرجة صونيا التّراب (فيسبوك)
+ الخط -

أثار عرض القناة التلفزيونية المغربية الثانية "دوزيم" لوثائقيّ بعنوان "الحصلة" (بالمحكية المغربية تعني "المأزق")، أنجزته صونيا التّراب (1986) في إطار سلسلة "قصص إنسانية"، جدلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، وصل صداه إلى البرلمان، بين مُدافع عنه لعرضه واقع شباب "الحيّ المحمّدي"، المشهور في قلب الدار البيضاء، كما هو، بعيداً عن التجميل والأسطرة، ومَن انتقده بشدّة، متّهماً إياه بتشويه الحقائق، وتقديم صورة مغالطة وغير متوازنة عن حيّ تخرّج منه عمالقة في الفنّ والأدب والرياضة، في عصره الذهبي، بين ستّينيات القرن الـ20 وثمانينياته.

"الحصلة" من إنتاج المخرج نبيل عيوش، عبر شركته "عليان للإنتاج"، ما يذكّر بواقعة مماثلة في ربيع 2015، حين تسبّب تسريب مقاطع من فيلمه "الزّين لي فيك"، بالتزامن مع عرضه في مهرجان "كانّ"، في انتقاداتٍ كثيرة خرج بعضها عن سياق إبداء رأي إلى حملة من الشتم والتشهير بأعضاء فريقه، وتهديدات بالقتل، وصولاً إلى الاعتداء الجسدي على الممثّلة لبنى أبيدار، وقرار منع عرضه في المغرب، الذي لا يزال سارياً إلى اليوم. هذا كلّه قبل التقدّم بطلب تأشيرة العرض، ومن دون مشاهدته كاملاً. كأنّ قدر معظم مشاريع مخرج "علي زاوا" إثارة نقاش واستقطاب حادّ في أوساط المغاربة، بين مدافع ومنتقد ومهاجم.

ما يحزّ في النفس، نظراً إلى محتوى النقاش، ندرة الآراء التي تتناول "الحصلة" من زاوية السينما. فرغم الملاحظات الفنية الكثيرة التي تُسجَّل عليه، يبقى قبل كلّ شيء عملاً فنياً، ما يؤشّر مجدّداً إلى الخسارة الفادحة على مستوى النقاش العام، المثار حول الأفلام، والمترتّبة (الخسائر) عن تغييب الثقافة الفنّية عن المدارس والإعلام وفضاءات العيش المشترك للمغاربة. فيحيد النقاش عن وظيفته الفاضلة، المتمثّلة في الارتقاء بمستوى الأعمال الفنّية عبر مقارعة الحجة بأخرى، إلى رافدٍ لحجب الحقيقة الفنّية، وسط ردود فعل متشنّجة، تتذرّع بسطوة الأسطورة على الواقع تارةً، أو تصنع من ديكتاتورية تناول الواقع وسيلةً لتنزيه الفيلم عن النقد تارةً أخرى. الآراء الحاكمة على "الحصلة" ـ انطلاقاً من تركيزه على نماذج شبّان، يقعون في البطالة ويُدمنون المخدرات ويرتادون السجون، ومن إساءته عبر هذا إلى تاريخ "الحيّ المحمّدي" ـ تخطئ الطريق، لاعتباراتٍ عدّة: 

أولاً: هذا ليس صحيحاً تماماً. فالفيلم يقدّم نموذجاً واحداً (على الأقلّ) يُمكن اعتباره "إيجابياً"، من خلال قصّة شاب ينجح في التحكّم بحياته بعد خروجه من السجن، ويصبح مستخدماً ناجحاً في مطعم، ويقول بصراحةٍ، بحضور شبّان آخرين لا يزالون عالقين في مفترق الطرق، إنّ "الحلال" (إشارةً إلى الابتعاد عن الجريمة والمخدّرات) سبيلٌ وحيد لتحقيق حياة سعيدة.
ثانياً: في كلّ الأحوال، ينبغي ألّا يُتّخذ مؤشّر مدى مطابقة حكي "الحصلة" للواقع كمطية لمحاكمة فيلم سينمائي مرهون بمدّة محدودة (60 دقيقة)، والاختيارات الفنية للمخرجة التّراب المتمثّلة بالتركيز على فئة معيّنة، ويُنظَر إلى هذا كـ"تمثيل" لشباب "الحيّ المحمّدي". فما بالك بأنّ يُصبح هذا، بقدرة قادر، تعبيراً عن سكّان الحي جميعاً، وعن تاريخه المجيد. على عكس البحث السوسيولوجي، المُقيّد بضرورة تمثيل العيّنة المتنَاولة لمواصفات المجموعة البشرية التي يسعى إلى دراستها، فإنّ التبئير على طرح معيّن وشخصيات بعينها من أبجديات العمل الفنّي، كي لا يتوه في خطاب يدّعي شموليةً (غير مُنتظرة من الوثائقي) وتطرّقاً (هذا ليس دوره) لكلّ جوانب الحياة، في حيّ غنيّ ومُعقّد تركيبةً وتاريخاً، كـ"الحيّ المحمّدي".

الأجدى أنْ يُحكم على "الحصلة" من داخل اختياراته الفنية، ومدى نجاح صوفيا التّراب فيها، ما يقود إلى خلاصة مفادها أنّ الفيلم أقرب إلى سلسلة ريبورتاجات متهافتة ومرتبكة، منه إلى وثائقيّ بمواصفات سينمائية متعارف عليها، وحمولتها المرتبطة بتماسك وجهة النظر، وفنّية الرؤية، وتناغم الخطاب. فالفيلم ينكث بوعدٍ يأخذه على عاتقه في التعليق المُصاحب لعرضه، مفاده "التطرّق إلى الحيّ المحمّدي: بين الأمس واليوم"، في إشارةٍ إلى ما كان عليه الحيّ نفسه زمن خروج أغنية "الحصلة" لفرقة "لمشاهب" (الموحية بالعنوان) في سبعينيات القرن الماضي، والزمن الحاضر. فباستثناء مقتطفات من الأغنية نفسها، ومشهد قصير من شريط فيديو يُظهر الراحل محمد السوسدي (عضو الفرقة)، لا يستعين الفيلم بأيّ وثائق أرشيفية أو شهادات في تناوله الجدلي الجاد للفوارق بين الأمس واليوم، ما يُخلّف تفاوتاً مهولاً بين المُنتظَر والمُنجَز، يؤثّر كثيراً على تلقّيه. يا ليت المخرجة توفّقت في النّفاذ إلى عمق الشخصيات برصد حاضرها، والتحوّلات التي طرأت عليه خلال عام التّصوير. فبدلاً من ذلك، يتشتّت "الحصلة" بين مَشاهد مرتبكة تمّ تجميعها بشكل أقرب إلى العشوائية منه إلى رؤية فنية منسجمة، وازعها الوحيد البحث عن الإثارة السهلة (شجار، ملاسنات بين مشجّعي "الرجاء" و"الوداد" البيضاويين، نسبةً إلى الدار البيضاء، إلخ.)، وهيمنة حوارات سطحية، يبدو فيها جلياً سعي الشخصيات إلى إثارة انتباه الكاميرا بأيّ ثمن، ما يوحي بأنّ صوفيا التّراب لم تنجح في اختراق قوقعة التظاهر التي تلفّ شخصياتها، إلى الحقائق الداخلية فيها، وإلى المسكوت عنه في عيشهم وخلفيات تصرّفاتهم.

في "الحصلة" مُتوالية مؤسفة من الكليشيهات. ولعلّ الإيقاع "اليوتوبيّ" المرتبك، الذي طبع مونتاج المَشاهد، يُترجم غياب أيّ سعي إلى الالتصاق بانسيابية الزمن (أسمى غايات الوثائقيّ)، وعدم القدرة على استثمار الزمن الطويل نسبياً للتصوير في خلق سردية منسجمة وخلّاقة، تُثير في المُشاهد الإحساس بمرور الزمن، ونحته مصير الشخصيات. هذان الأمران أبرز مؤشِّرَين على فشل اختيارات المخرجة صونيا التراب في التقاط حقيقة شباب "الحيّ المحمّدي".

ختاماً، لا رغبة في تحويل نقاش "الحصلة" إلى مناسبة لمحاكمة جائرة لسلسلة "قصص إنسانية"، التي تظلّ، رغم تذبذب اختياراتها الفنية، تجربة ناجحة، تمثّل إحدى واحات الانتصار لبرامج فنية حقيقية في شبه صحراء شبكة برامج التلفزة المغربية، خصوصاً بالنسبة إلى توقيت عرضها (وقت ذروة المتابعة الأسبوعية، مساء كلّ أحد). فهذا النقاش الواسع، الذي خلّفه عرض الفيلم، دليلٌ آخر على شغف الجمهور المغربي بمشاهدة الأفلام الوثائقية.

المساهمون