"الجنّة الأخيرة"... امرأة خارج حقل الزيتون

"الجنّة الأخيرة"... امرأة خارج حقل الزيتون

24 يوليو 2021
ينجح المخرج على المستوى الصورة وعمقها (نتفليكس)
+ الخط -

ينتمي المخرج والممثل الإيطالي روكو ريتشياردولي (1961) إلى سينما إيطالية جديدة، بدت في الأعوام القليلة الماضية كأنّها تُحاول أنْ تكون تاريخية، ليس بالمعنى الوجودي، الذي يجعلها تُقيم في سياقات وتواريخ وحضارات، بل تتعمّد فقط الغوص والإقامة في ذاكرة البلد، سياسياً واجتماعياً. فالتاريخ يحضر بوصفه مُحرّكاً للراهن السينمائي، على أساس أنّه فضاء يحتضن أحداثاً وشخصيات.
بهذه الطريقة الفنيّة، يُحرّر ريتشياردولي فيلمه الجديد، "الجنّة الأخيرة" (2021)، من البُعد الايديولوجي، لأنّ العودة السينمائية تقف عند حدود استلهام قصص وحكايات، وإعادة تخييلها وفق منظور سينمائي معاصر، بحيث تُصبح الصورة السينمائية أكثر ارتباطاً بحكي النصّ أكثر من التحامها بسرديّة التاريخ، ما يجعلها تغوص في واقع الفيلم، أمام ما يحبل به من عنف ومآزق وتكهّنات، لأنّ الفيلم معطى بصريّ، يقوم على ابتداع مفردات فنيّة، وإنْ تماهت مع التاريخ ووقائعه وايديولوجيّته، يبقى الهاجس الجمالي ما يجعل الفيلم إبداعاً وليس شيئاً آخر.


هذا في مقابل أفلام إيطالية عدّة اشتغلت على التاريخ، موضوعاً وحكاية ومعالجة ونظرة، ما جعلها تقبع في أتون صورة سينمائية مُضمّخة بالإيديولوجيا، لأنّ الفعل السينمائي، يرغب في أنْ يُدين التاريخ ويُعرّيه، لا أنْ ينسج معه علاقة فنيّة وجماليّة.
يقترح روكو ريتشياردولي، في جديده، رصد حكاية تشيتشو (ريكاردو سكامارشيو)، في قرية إيطالية. مُتزوّج، وله عائلة، لكنّه في الآن نفسه يحبّ امرأة أخرى. الأولى تجعله مُختنقاً، وتُذكّره بحجم فظاعة واستغلال يعيشهما في القرية، فيجعله ذكرها يُفكّر بالهروب إلى مكان جديد، لا يعرف فيه أحداً. الثانية تبثّ فيه رغبة الحياة، وعشق الشراب والسفر خارج القرية برفقتها، كيْ يبدأ حياة جديدة وحقيقية. تشيتشو فلاّحٌ في حقل زيتون، لكنّه في الوقت نفسه يثور على سيّد الحقل، لأنّه يشتري المنتوج بالثمن الذي يُريد، لا بما يُريده فلاّحو القرية، رغم أنّهم يزرعونه ويحصدونه ويتعبون في إعداده، إلاّ أنّهم غير قادرين على التأثير في المالك.

تمضي الأيام، وتتأزّم العلاقة بين الطرفين، قبل أنْ يعرف المالك أنّ لابنته بيانكا (جيا بيرماني أمارال) علاقة غرامية مع تشيتشو. لأنّه متزوّج، فذلك جُرم في نظر الكنيسة، ما يدفع الأب إلى قتل الرجل. هنا، تنتهي حكاية الفيلم وتبدأ أخرى: فور معرفة أخيه الأكبر، أنطونيو (الممثل نفسه لكنْ بملامح أخرى)، الذي يعيش في لندن، بمقتل شقيقه، يعود إلى القرية لحضور المأتم، ويحرص على قتل الرجل، فيُقرّر البقاء والزواج من حبيبة أخيه.

تجربة روكو ريتشياردولي من بين تجارب سينمائية أخرى لم تستطع، إلى الآن، خلق الحدث في السينما الإيطالية

تجربة روكو ريتشياردولي من بين تجارب سينمائية أخرى لم تستطع، إلى الآن، خلق الحدث في السينما الإيطالية. قدرته على اللعب بالأضواء الطبيعية قويّة، وإمكاناته كمُخرج (3 أفلام) تبدو بارزة، على مستوى تعامله مع جماليّات الصورة، ومُحاولة تقديم رونق شاعريّ خاصّ على أنماطها. إلاّ أنّ هذه الخصائص التقنية والبصريّة وحدها غير كافية، ولم تسعفه في صنع فيلمٍ مؤثّر، رغم اعتماده على وجوه سينمائية مألوفة في السينما الإيطالية والعالمية. حكاياته دائماً مُشتتّة وغائمة وغير ناضجة، وفي بعضها تسرّع وهشاشة تأليف، يبدوان واضحين في منتصف "الجنّة الأخيرة"، إذْ يتّضح أنّ رغبته في إنهائه مُلحّة، لأن لا قدرة لديه على إيجاد حلول فنيّة، تنسجم مع طبيعة الحكاية وخصائصها ومكوّناتها الجماليّة، وهذا عائدٌ إلى ارتباك النصّ، وسطحيّته، وتشعّب قصصه، وعدم وضوحها.
لم يستطع روكو ريتشياردولي التحكّم في النصّ على مستوى الكتابة. أحياناً، تتداخل قصّة بأخرى من دون سبب، ويتغيّر معها الموضوع والمَشهد سريعاً، وتُصبح الحكاية الأصل شاردة بتفاصيلها ونتوءاتها، لأنّ منطلقاتها الأساسية متصدّعة، ويغلب عليها الارتجال. منذ البداية، يبدأ الارتباك، في الحكاية وتفاصيلها وغموض صُورها، ما يجعلها قابعة وفق منظور رومانسي ساذج.

ورغم اعتماده على زمن سينمائيّ سريع ومُتحوّل، لتبسيط الحكاية وشخصياتها وخلفياتها، إلاّ أنّ ذلك لم يكُن كافياً، حتى تستقر الحكاية في ذهن المُشاهد، إذْ أنّ حجم الابتذال وعدم النضج يجعلان الفيلم عبارة عن كليشيهات بصريّة يغلب عليها نوع من الموسيقى التصويرية البكائية، التي يُحاول دغدغة مشاعر المُشاهد بها. موسيقى طافحة بقوّة على عنصر الصورة، ومُزعجة في إيقاعها وعدم تناسقها مع المَشاهد، اجتماعياً ورومانسياً.
"الجنّة الأخيرة" نموذج مُصغّر عن أفلام عالمية كثيرة، يترك أصحابها عملهم التمثيلي لإخراج أفلامٍ هشّة، وكتابة سيناريوهات مبتذلة، من دون تجربة فنيّة أو أفق سينمائي غير مألوف، يجعلهم يُقدّمون شيئاً مغايراً لعشاق الفنّ السابع. هؤلاء يفعلون هذا سعياً إلى حظوة إعلامية ومادية، تُرافقهم في مهرجانات العالم.

المساهمون