"البحر أمامكم" لإيلي داغر: كأنّ طارق بن زياد يخاطب اللبنانيين

"البحر أمامكم" لإيلي داغر: كأنّ طارق بن زياد يخاطب اللبنانيين

22 ابريل 2022
منال عيسى ويارا أبو حيدر: أجمل تعبير عن أقسى حزن (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

رسم المخرج إيلي داغر، في "البحر أمامكم" (2021)، لوحة شاملة عمّا مرّ به الفرد اللبناني من قلق وترقّب وخوف من الآتي. هذا الفرد لم يعد يقوى على الحلم، في ظلّ المعطيات السلبية التي يعيشها البلد، انطلاقاً من تراكمات الماضي، بحروبه وصراعاته السياسية والحزبية حول السلطة والنفوذ، والحاضر المُحاط بالفاسدين، وإنْ كان داغر لم يتطرّق إلى بعضها صراحة، لكنّه لمّح لها من خلال شخصياته المثقلة بالهموم والأحزان، كحال جنى (منال عيسى)، الشخصية الرئيسية، التي جعلها نموذجاً، ينقل عبرها آهات الشباب الذين توقّفوا عن الحلم، لأنّ اليأس تملّكهم وحاصرهم وتمكّن منهم، إلى درجة أنّهم، كجنى، ينتظرون، أو يتوقّعون تسونامي جديداً يعصف بالبلد المرهق.

لم يُفسّر إيلي داغر نوع هذا التسونامي: موجة عملاقة، أو انفجار كبير، كانفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، أو نوع آخر من الخراب المنتظر. المهمّ في هذا كلّه، أنّه ينظر إلى حاضر لبنان ومستقبله كفضاء غير ملائم للعيش والحلم؛ ويرى ناس البلد محاصرين فيه، انطلاقاً من تفسير عنوان الفيلم، "البحر أمامكم"، الموظَّف استناداً إلى خطبة طارق بن زياد، القائل لجيشه، عشية غزوه الأندلس: "يا أيها الناس، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر".

تلاعب داغر بالجملة، وجعل البحر أمام اللبنانيين، والعدو خلفهم، ويمكن لهذا العدو أنْ يكون السياسيّ والفاسد والمتآمر، وما اتصل بهذه المفاهيم، وفي الوقت نفسه حرّض المُشاهد على تتبّع بقية الخطبة (خارج الحيّز السردي للفيلم)، لفهم ما ينتظره، خاصة عندما تصل الخطبة إلى جملة "واعلموا أنّكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام". كأنّ طارق بن زياد لا يخطب في جيشه، بل في اللبنانيين. هكذا تظهر أهمية العنوان، بما يحمله من قوّة، لتقديم بُعدٍ إضافيّ، بعيداً عن المَشاهِد المُصوّرة، وإحاطة العمل بأسئلة وتأويلات ودلالات، لإعطائه قيمة ثقافية وفنية، تُبعده عن العاديّ. والعنوان أول عتبة تُواجه المُشاهِد قبل دخوله في الفيلم، وفي تفاصيله.

ملخّص "البحر أمامكم" ـ المعروض للمرة الأولى عالمياً في برنامج "نصف شهر المخرجين" (النسخة الـ53)، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ يقول التالي: "عودة شابّة لبنانية من فرنسا إلى منزل أهلها في بيروت، التي فرّت منها سابقاً، بعد تجارب سيئة مرّت بها، والإحساس المتزايد بالحصار داخلها يدفعها للعودة إلى الجزء الآخر من الحياة، التي تخلّت عنها في الماضي، وهجرتها". كأنّ جنى، بعودتها، تمثّل الهجرة المُعاكسة، بينما الهجرة تكون عادة من لبنان إلى الخارج.

في الفيلم، حصل العكس، وذلك لمعاينة الوضع بعينيها الخاملتين والذابلتين، وبقلبها الحزين والشارد، وبملامح وجهها الكئيبة والمثقلة بالهموم. أعادها بوصفه صاحب سلطة، فهو المخرج وكاتب السيناريو، أي أنّه من فكّر في مصيرها، في خياله وتجاربه التي عاشها في بلده، جاعلاً منها حججاً في حيّزه السردي، المضغوط بمشاعر جنى، وغموضها وهدوئها وثورتها، والمشبع بالأسئلة المحيطة بها، بدءاً من سؤال رئيسي، اعتمده في أكثر من ثلثي الفيلم: لماذا تركت فضاءات باريس المفتوحة على الفرص، وعادت إلى بيروت المحاصرة بالمشاكل.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

هي نفسها لا تعرف إجابة واضحة. لكنْ، يُعثر في صمتها وغضبها ونظراتها الشاردة على بعض تلك الإجابات: لم تتوفَّق في دراستها وأعمالها المتفرقة، فعادت إلى خيبتها الأولى، وإلى منطلق الخيارات. عادت لتشهد تلك الوقائع المزرية. تتبّع داغر، بواسطة كاميرا شادي شعبان، الفضاءات الرمادية لبيروت، وظلامها وخواءها وحيرتها، بفضل صُوَر المشاعر السلبية، الساكنة في الشخصيات، والوجوه الحزينة، والشواطئ المظلمة، والفنادق المتآكلة والفارغة. كأنّ المدينة، بحسب تلك الكاميرا، تستعدّ لفقدان حياتها نتيجة الضربات المتتالية.

يسند داغر هذه المشاهد بغموضٍ، يلفّ جنى من كلّ جهة: والدتها (يارا أبو حيدر)، الحاملة همومها على كتفيها؛ ووالدها (ربيع الزهر)، الذي يرفق بحالها ولا يضغط عليها، لعلمه أنّ الحالةَ التي بلغتها، نتيجةٌ حتمية للوضع العام. تتحوّل جنى، بصيغة ما، إلى بيروت، اذْ تُشاركها معطيات كثيرة، كالفشل والوجه الرمادي الكئيب، والغموض المحيط بمستقبلها، وعلاقتها الفاشلة، وخرابها الذي يأكل كلّ حيّز فيها.

استطاع داغر المحافظة على إيقاع الفيلم وسلاسته، رغم مدّته الزمنية البالغة 116 دقيقة. تحكّم في الزمن السردي، وسيّره بحكمة، من دون حشو وإطالة في الأحداث، رغم قلّتها. أكثر من ذلك، تعاون مع ممثلين وممثلات قليلين (عيسى وأبو حيدر الزهر، وفادي أبي سمرا). أتقن إدارتهم، مستخرجاً أفضل ما فيهم، خاصة عيسى، التي توحّدت مع دورها بشكل كبير، وانسجمت مع تفاصيل الشخصية، بأبعادها النفسية والجسدية، عبر الملامح ولغة الجسد، وحملت مشاعر الفيلم على كتفيها. كما ظهر ذكاؤها في إجادتها الحزن والكآبة، وتحكّمت بسهولة في ملامحها القوية والمعبّرة عن الأحاسيس، المنقولة بحوار أو مواقف درامية. منال عيسى اختصرت هذه المسافة بفضل موهبة الحزن التي تملكها، كأنّ القصة تنقل حياتها الشخصية، بطريقة أو بأخرى، فجسّدتها وعاشت مع تفاصيلها في كلّ مشهد: في علاقاتها مع نفسها وحبيبها (روجيه عازار) وعائلتها، ومع بيروت التي آلمتها وتركت في نفسها جرحاً غائراً.

أثبت إيلي داغر، من خلال "البحر أمامكم" ـ أنّه ذو موهبة حقيقية في السينما، وأن "السعفة الذهبية للفيلم القصير"، الحاصل عليها في الدورة الـ68 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2015) لمهرجان "كانّ"، عن "موج 98"، لم تكن صدفة، بل بفضل موهبته ورؤيته السينمائية الثاقبة. هاتان الموهبة والرؤية منعكستان، بدرجة كبيرة، في فيلمه الطويل هذا، لأنّ فيه لغة سينمائية قوية، وحوارات متقشّفة ومختزلة. كما أطلق العنان للصورة لكي تخلق المعاني، وتطرح الأسئلة، وتنقل المشاعر الباردة والدافئة إلى المُشاهِد، الذي سيفهم أبعادها ويُحسّ بتفاصيلها.

المساهمون