"البابوان" كما يراهما ميريليس: نزاع التديّن بين الإنساني والدوغمائي

"البابوان" كما يراهما ميريليس: نزاع التديّن بين الإنساني والدوغمائي

02 أكتوبر 2020
فرناندو ميريليس: مناظرة شرسة (كريس غرايثن/Getty)
+ الخط -

 

"البابوان" (2019) لفرناندو ميريليس فيلم مناقبيّ (Hagiographique) عن رجلي دين، يختلف أحدهما عن الآخر، ويجمعهما هدفٌ نبيلٌ: مجد الكنيسة الكاثوليكية.

تحفة بصرية، تستثمر سينمائياً عظمة معمار "كنيسة سيستينا"، وجداريات خالدة، وطقوس تديّن عريقة ذات تجلٍّ بصري دقيق، يبعث الدهشة والرهبة في جُلّ المَشَاهد، وفي ملابس البابا والكرادلة، وفي طريقة تنظيمهم وتنقّلهم. يعيش البابا بفخامةٍ ورفاهية. في الأداء المتعالي لأنتوني هوبكنز، لمسةٌ مركزية أوروبية رهيبة. في الأداء العفوي لجوناثان برايس، لمسةٌ من تقاليد لاهوت التحرّر الأميركي اللاتيني، التي يفقهها المخرج البرازيلي.

على صعيد الموضوع: "مات البابا، عاش البابا". اجتمع الكرادلة لانتخاب بابا جديد بعد استقالة البابا الحالي. قبل الانتخاب، يلتقي البابا الألماني بالكردينال الأرجنتيني، فتجري بينهما مناظرة شرسة.

على صعيد الأسلوب: الفيلم مناظرة مسرحية بين شخصيتين. ينبع الأسلوب ربما من إشكالية الفيلم: اختلاف الـ"كاهنين" الكبيرين. شمالي وجنوبي. من يستحقّ المنصب؟

كنائس أوروبا فخمة جميلة. كنائس أميركا اللاتينية خربة، لكنّها ممتلئة. هل يجب انتخاب بابا أوروبي، حيث الكنائس فارغة؟ الكنيسة في أزمة. الناس يهجرون الكاثوليكية لأنّها محافظة أكثر مما ينبغي. بُني السيناريو على ملاحظة ظاهرة سوسيولوجية. الحلّ؟ الخطوة الأولى للقيام بالإصلاح كامنةٌ في أن يكون القائم به سياسياً. هنا، ينفتح الفيلم على تحوّلات نمط التديّن الغربي. فَقَد الدين موقعه في الغرب، بسبب خوف الليبراليين من تسييس الدين، بحسب "الأديان العامة في العالم الحديث" لخوسيه كازانوفا (جامعة شيكاغو، تعريب "المنظمة العربية للترجمة"). حينها، أضعفت البروتستانتيةُ الكاثوليكيةَ، وفتحت الباب للحداثة. محرّكا الحداثة: السوق الرأسمالية والدولة الإدارية.

بسبب هذا التغيير، خرج الراهب من الدير، وخضع لغواية الحياة، فصار "زمنياً"، ثم علمانياً. العلمنة تعني "الممرّ"، أي الانتقال. نقل الأشياء والوظائف والمعاني من حيّز دينيّ إلى حيّز زمنيّ دنيويّ. من الملكوت المقدّس إلى الدنيوي. يشرح كازانوفا أنّ هناك 4 عوامل قوّضت النظام التصنيفي الديني في القرون الوسطى: الإصلاح البروتستانتي، ونشأة الدولة الحديثة، ونموّ الرأسمالية الحديثة، وبداية الثورة العلمية الحديثة. كان التنوير النيوتوني (نسبة إلى إسحاق نيوتن، مُكتشف الجاذبية) مناهضاً للدين. أكّد العلم النسبية. لا تستطيع الكنيسة قبول النسبية، أي أنّ فكرة الخطأ والصواب واردان بالدرجة نفسها.

 

 

تنطلق المناظرة بين البابا والكاردينال من الموقف من النسبية. هذا يعطي فكرة عن مدى دراية كاتب السيناريو (أنتوني ماك كارتن، عن مسرحية له بالعنوان نفسه) بتحوّلات تاريخ التديّن في الغرب.

بالنسبة إلى البابا المُحافظ، الكاثوليكية صالحة لكلّ زمان ومكان، وعابرة للعصور. السبب بحسب البابا المحافظ على ألفي عام من التقاليد: "من يتزوّج روح عصره، يجد نفسه أرملاً في العصر الموالي". للإشارة، تُسرد سيرة القديسين في الأدبيات المسيحية من دون ربطها بزمن تاريخي. بالنسبة إلى كارل ماركس، "يتجاهل سرد القدّيس الحياة الفيزيولوجية والاجتماعية للفرد، للتخلّص من التاريخ والقوميات والطبقات" ("الأيديولوجية الألمانية"، ص 125). يرى "الكاهن الكبير"، أنّ على التقاليد الدينية المطلقة أنْ تتعالى على الزمن. يشرح برتراند راسل أنّ هذا هو معنى الكاثوليكية. الكنيسة كاثوليكية، أي الشاملة للعالمين ("حكمة الغرب"، ج. 1، ص. 224). الكاثوليكية عالمية. هكذا يعتقد الكاهن الدوغمائي الواثق أنّه وحده على حقّ، ودائماً. كاهنٌ مُحافظ يُصرّ على أنْ يُقبِّل الأساقفة يده، ويزعم أنّ الاعتراف الكنسي يُلغي الجريمة.

هذا جنون بالنسبة إلى الدولة الحديثة. الجريمة جريمة. يغضب الآخر، ويردّ بحدة: "الاعتراف والمسامحة لا يُرجعان البندول إلى الصفر".

الكاردينال يسوعيّ أرجنتيني فقير، يحبّ كرة القدم. فقير يبارك المطلّقين. راهب نسبي لا يدّعي امتلاك الحقيقة. ودفاعاً عن النسبية، يذكر واقعة تاريخية مزلزلة: حتى القرن الخامس، كان الرهبان يتزوّجون، ولم يكن هناك ذكرٌ للملائكة في الأدبيات الدينية الكاثوليكية. بعدها، تغير الوضع. يعرفُ الدوغمائيّ هذا، لكنّه يكتمه عن الشعب. فجأة، يستخدم المخرج الـ"زوم" (تقريب وجه الممثل بإدارة الـ"فوكيس")، ليعكس لحظة تراجع. حينها، يلجأ الآخر إلى السخرية. يروي نكتة: "اختلف راهبان حول مسألة التدخين والصلاة. قصد الراهب الأول الأسقف، وسأله: هل التدخين مسموح في أثناء الصلاة؟ الجواب: لا. فوراً، سأل الراهب الآخر، وكان يسوعياً مثقّفاً، مع تغيير الصيغة: هل الصلاة مسموحٌ بها في أثناء التدخين؟ أجاب الأسقف: نعم".

 

 

تعكس هذه الفتوى المرنة اختلاف قدّيسَين يتجادلان. هذا منهيٌّ عنه، لأنّ المناظرة السقراطية تقليدٌ فلسفي مسموم، كما يقول يعقوب الفورواجيني في "الأسطورة الذهبية". بينما يتجادلان، يكتشفُ المُحافظ أنّ لدى خصمه طاقة وعظية هائلة. هنا، يرى فرصة لدى بديله. هل التغيّر تنازل؟

لتحقيق مُصالحة، يشاهد البابا والكاردينال معاً مباراة نهاية كأس العالم بين منتخبي الأرجنتين وألمانيا. ماذا لو كانت كرة القدم وقواعدها الديانة الأكثر انتشاراً في العالم اليوم؟

يستشهد أحدهما بالقدّيس فرنسوا، الذي كان يبني الكنائس، ويذكر الثاني أنّ القدّيس فرنسوا (نموذج للكمال المسيحي) يحبّ الرقص. هكذا ينتقي كلّ واحد منهما الجانب الذي يلائمه من سيرة زعيم حركة التفقر الأوروبية في القرن الـ13. أسوأ نقد يُمكن توجيهه إلى البابا، نسيان الفقراء. الردّ: تخلّى عن الصليب الذهبي، وندّد بعولمة اللامبالاة. الردّ بالمشهد الأخير تتمة للمشهد الأول. مشهد يعرض حدثاً صغيراً يوجز شخصية البابا الجنوبيّ. تعكس وجهتا النظر الخاصّتان بهما اختلافاً بين تديّن إنساني منفتح وآخر دوغمائي يقوم على اليقين. "اليقين ليس تنويرياً" بحسب "موسوعة لالاند". المشكلة أنّه يستحيل أنْ يكونا معاً على حقّ. لا بُدّ أن أحدهما على خطأ. المزعج أنْ يكتشف المتفرّج في منطقة شمال أفريقيا وشرق المتوسط أنّه يشبه الكاهن أحاديّ الرأي. لذلك، لا توجد حركة إصلاح ديني في المنطقة، حيث الربّ الواحد والحقيقة الواحدة والطريق الواحدة والقائد الأوحد.

المساهمون