"أنا رجلك"... دعوة إلى التفكير في الحب

"أنا رجلك"... دعوة إلى التفكير في الحب

21 ابريل 2022
الصمت في الفيلم يحمل أبعاداً وجودية (بليكر ستريت)
+ الخط -

ليس غريباً أنْ تُدهِش المُؤلّفة والمُخرجة الألمانية ماريا شرادر (1965)، في جديدها "أنا رجلك" (I’m Your Man)، مُشاهِدَه. نصّ بسيط، وسرد مُذهل لا يلهث وراء أحداثه الدرامية، والمَشاهد لا تجعل المتلقّي ينفعل أمام قوّة الصورة السينمائية، بقدر ما تدعوه إلى التفكير والتأمّل في ماهية الحبّ، وجوهر العلاقات الإنسانية، في الزمن المعاصر. حواراتٌ مُتنوّعة الحجم، بين التقشّف والاستطراد، لكنّها كافية لإضاءة المُعتم في سيرة الجسد، وعلاقة الرجل بالمرأة، وبمفهوم الحبّ خاصّة.
تحرص ماريا شرادر، منذ بداية الفيلم، على أنْ تجعل صُوَرها أكثر مُعاصرة، فلا تسقط في استعادة الذاكرة السينمائية الغربيّة، وطُرق تناولها لمفهوم الحبّ في مسرحياتٍ ومسلسلاتٍ وأفلام. لا تترك الكاميرا تحكي أو تسرد، بقدر ما تجعلها تُفكّر وتتأمّل طبيعة الحياة اليوميّة المعاصرة، من خلال نصّ سينمائيّ غنيّ بالدلالات والرموز والصُّوَر. وإذا كانت كاميرا شرادر لا تُركّز على أحداث الفيلم، فلأنّ الموضوع يفرض نوعاً من المُقاربة المُزدوجة. ولا غرابة أنْ تظلّ الصُّوَر مُلتصقة بمسام الشخصيات وملامحها وانفعالاتها، بطريقة ينتفي معها أحياناً مفهوم السيناريو، ويغدو مجرّد شكل أدبيّ أو عنصر تقني، أمام حركة الجسد في الصورة السينمائية. هذا الصمت المُذهل يمنح للصورة أبعاداً أنطولوجية، ويُتيح للفيلم جدّيته على مُستوى الموضوع، وطرق التعبير عنه، بصرياً وسينمائياً.
نوّعت شرادر اشتغالاتها البصرية، وكثّفتها من ناحية الكتابة، مع أنّ السمة الغالبة تظلّ مُرتبطة باقتضاب الحوارات ورمزيّتها. تترك المُتفرّج مُندهشاً من بلاغة صمتٍ يُرمّم فراغات الصورة، وفائض المساحات البيضاء، التي تعمّدت المُخرجة تركها بين شخصيتي ألما (مارِن إيغرت، جائزة "الدبّ الفضي" لأفضل ممثلة، في الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المُقامة بين 1 و5 مارس/آذار 2021) وتوم (دان ستيفنز). منذ البداية، يتبدّى للمُشاهد نوع الصورة الحسّية العميقة، التي اشتغلت عليها ماريا شرادر بشكلٍ تناظريّ، بين مُعطيات الواقع العيني، ورحابة التخييل البصريّ. الصمت في "أنا رجلك" (2021) يحمل أبعاداً وجوديّة. السبب يعود أساساً إلى طبيعة النصّ الأدبي، والشكل السينمائي، والقالب الجمالي، وهذه كلّها ارتأت شرادر وضع الفكرة فيها، وجعلها تتأرجح سينمائياً بين الواقع والخيال.


في الفيلم، تغيب القصّة، وتحضر الصورة كعلامةٍ بصريّة، تُعيد بناء أنطولوجيا النصّ، وتنحت ملامحه وخصائصه وميكانيزماته. كأنّ شرادر لم تكتب نصّاً أدبياً، بل شيّدت معمارها الأدبيّ بالصُّوَر السينمائية، جاعلة إياها ركيزة أساسية، بحيث تتراجع الحوارات إلى الوراء، مُفسحة المجال لدلالات الصورة الفنية وحركات الجسد. لكنْ، مع اقتراب النهاية، تنسحب الصُّوَر نفسها إلى الخلف، ويستعيد السيناريو بهجته وسُلطته كنصّ. لكنّ أمراً كهذا لا يرتبط أصلاً بأيّ دوافع فنية أو جمالية، بل يتّخذ صبغة نفسية، نظراً إلى سِيَر الشخصيات، فتكثر الأسئلة عن طبيعة الحبّ بين البشر ومفهومه، وعمّا إذا كانت هناك إمكانية محبّة إنسانٍ آلي، كتعويض عن الشغف والحرمان والغياب والوحدة والأرق، إزاء علاقات الحبّ، التي تُنسَج بين البشر في العالم الواقعي.
أسئلةٌ كهذه أكبر من أنْ تُجيب عنها ماريا شرادر في "أنا رجلك". لذا، تكتفي بأنصاف الصُّوَر لا الصُّوَر. أحياناً، هناك مَشاهد "سيمولاكر" عن النُّسخ الأصلية. ورغم قوّة السينما، كشكلٍ فني قادر على احتواء الأفكار الفلسفية، لا يُمكن الإجابة عن مفهوم الحبّ، بالصيغة المُقترحة في الفيلم، أنْ تسلم من مطبّات، فالأسئلة تبقَى مُعلّقة، وتصعب الإجابة عنها، لأنّ المسألة لا تتعلّق بأفكار يُمكن التخلّي عنها مع مرور الوقت، أو إشكالية تُثير اختلافاً بين عديدين، أو قضية يخفت وهجها. المسألة مرتبطة بلاوعي المرء ومشاعره وأحاسيسه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يصعب التنبؤ بنجاحٍ فكرة الحبّ، وتقديم وصفاتٍ جاهزة عن العلاقة مع الآخر، بسبب زئبقيّة الكائن البشري، واختلاف تفكيره ومَشاعره، وتناقضاته مع نفسه قبل الآخر.

تقول ألما لتوم: "هناك فجوة بيننا. يُمكننا التظاهر بعدم وجودها، والتظاهر بأنّ الوهم مجرّد شكلٍ آخر من أشكال الواقع. لكنْ، بعض الأشياء يُسلّط الضوء على مدى عمق تلك الفجوة، وانعدام فرصة التغلّب عليها"

المساهمون