"أغنية بقرة بيضاء": سينما بسيطة وعميقة

"أغنية بقرة بيضاء": سينما بسيطة وعميقة

19 مارس 2021
مريم مقدّم في دور مينا: ثأر ملتبس أو مصالحة معطوبة؟ (أمين جعفري، البرليناله 71)
+ الخط -

 

امرأة تهرول إلى سجنٍ كبيرٍ. تطلب من الحارس أنْ يفتح الباب لها. يرفض، لأنّ الوقت غير مخصّص للزيارات. تُخبره بأنّ زوجها سيُعدَم، لذا فهي تريد وداعه. يسمح لها الحارس، ويرافقها إلى الزنزانة الأخيرة لرجلٍ يظهر، عندما يُفتح الباب لثوانٍ قليلة، جالساً بتعبٍ وارتباك. يُغلَق الباب. يُسمَع، حينها، بكاءٌ، يعكس شيئاً من هلعٍ وخوف. ثم لا شيء.

بداية قاسية، لكنّها غير معنيّة بإثارة انفعال أو موقف. سلاسة تصويرها تهدف إلى التقاط وقائعها من دون إضافات أو تفسيرات أو تبريرات. بداية تقول إنّ زوجةً تودّع زوجها مرّة أخيرة قبل إعدامه. لا يُطلَب شيءٌ آخر في بداية كهذه. فَهمُ الحكاية يأتي لاحقاً. الأسئلة معلّقة إلى حين: لماذا يُحكم على الرجل بالإعدام؟ ماذا عن التهمة؟ أهذه الزوجة وحيدةً، أمْ أنّ لها منه أولاداً؟ ألديها أشقاء وشقيقات وأقارب؟ من هو الرجل المحكوم عليه بالإعدام؟ ماذا يفعل في حياته قبل إدخاله سجناً، والحكم عليه بالإعدام؟ أهناك دافعٌ سياسي، في لحظةٍ شاهدةٍ على غرق إيران في مزيدٍ من أحكام إعدام متنوّعة الأسباب؟

تتكاثر الأسئلة. لن يطول الوقت، فالمسائل تتوضّح تدريجياً. قبل تلك البداية، هناك آية قرآنية مستلّة من سورة البقرة: "وإذْ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم أنْ تذبحوا بقرة قالوا أتتّخذنا هُزُواً". مباشرةً، هناك لقطة واسعة لساحة كبيرة، تتوسّطها بقرة، ويقف رجالٌ في ناحيةٍ ونساءٌ في الناحية المواجِهة لهم. رموز أو إسقاطات أو تحريضٌ على متابعة وتورّط؟ المتابعة والتورّط يحدثان مع هرولة المرأة إلى السجن، ومع الانتقال إلى يومياتها الموزّعة بين ابنةٍ مُصابة بخرسٍ وصمم، وعملٍ في مصنع لصُنع حليب البقر. مُقيمة مع ابنتها في شقّة متواضعة، وجارتها (زوجة صاحب الشقّة) تهتمّ بهما أحياناً. شقيق زوجها يريدها، و"يُخبرها" بأنّ والده يسعى إلى الحصول على حضانة حفيدته. مسائل معتادة في اجتماعٍ يحاصر المرأة إنْ تكن وحيدة، ويجهد إلى خنقها بشتّى الوسائل إنْ تأبى الرضوخ لقوانينه.

تتحكّم السلاسة البصرية في سرد التفاصيل. الكاميرا (أمين جعفري) تُكمِل كلاماً، والتوليف (عطا مهراد وبحتاش صنايعي) يُزيل الشوائب لإتمام مشهدٍ ومسارٍ وسياقٍ ووقائع. سيتغيّر كلّ شيء مع ظهور رجلٍ، ذي ملامح حزينة إلى حدّ الاكتئاب، في حياتة المرأة الأرملة. يُخبرها بأنّه صديق قديم لزوجها، وأنّه يريد إعادة مبلغٍ من المال إليها، فهذا دينٌ، وعليه واجب إعادته. هي غير عارفة بهذا كلّه. هو يريد مساعدتها، فيتردّد إلى منزلها، ما يدفع جارتها إلى إبلاغها بضرورة ترك الشقّة (تنقل عن زوجها استياءه من تردّد رجل مجهول/ غامض على منزل امرأة أرملة ووحيدة، رغم وجود ابنتها)، فيُساعدها الرجل الغامض في العثور على شقّة أخرى، ويهتمّ بها وبابنتها. لاحقاً، يتبيّن أنّ للرجل ابناً شابّاً سيلبّي الخدمة العسكرية، رغم تعلّقه بالموسيقى، وينفضّ عن والده بسبب مواقف متناقضة بينهما، في السياسة والاجتماع والحياة.

الرجل الغامض؟ إنّه القاضي الذي ينطق بحكم الإعدام بحقّ زوج المرأة، وهذا أول حكم ينطق به في مساره المهنيّ. الملامح الحزينة حدّ الاكتئاب؟ المحكوم عليه بالإعدام بريء، فمرتكب الجريمة يعترف بجرمه متأخّراً. أحد كبار المسؤولين في النظام الإيرانيّ يُخبِر المرأة وشقيق زوجها الراحل بذلك، قبل ظهور الرجل الغامض في حياتها.

 

 

مساران اثنان يرتكز عليهما نصّ "أغنية بقرة بيضاء" (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 2020، 105 دقائق)، لبحتاش صنايعي ومريم مقدّم، التي تؤدّي فيه دوراً أساسياً أيضاً. الأول مسار مينا (مقدّم) بعد إعدام زوجها. الثاني مسار رضا أميني (عليرضا ثاني فرّ) بعد ظهور حقيقة الفعل الجرمي. الأول يكشف قسوة الاجتماع في علاقته بامرأة أرملة، تُقيم وحدها مع ابنةٍ وحيدة، غير قادرة على التواصل مع العالم حولها من دون لغة الإشارات، التي تُتقنها مينا جيداً. الثاني يتابع الانزلاق التدريجي إلى هاوية القهر والتمزّق والقلق والمتاهة والضياع، الذي يعيشه رضا بعد ظهور المجرم الحقيقيّ. تأنيب الذات، وتعذيبها وجَلدها أحياناً كثيرة، مسائل تنعكس سلباً على علاقته بابنه الوحيد، الذي تقتله جرعة زائدة من المخدّرات، ما يُزيد من وحشية الانزلاق إلى الهاوية نفسها.

مينا تجهد في عيشٍ متواضع وبسيطٍ، و"تقبل" حكماً قضائياً يعتبره ناطقون به محمياً بكلام الله ورغباته (نقاشٌ بين كبير المسؤولين ورضا، بعد استقالة الأخير وانكشاف مساعدته لمينا وابنتها، يعكس شيئاً من تساؤلاتٍ حول مدى جدّية الاقتناع بأنّ هذا، فعلياً، متأتٍ من كلام الله ورغباته). لكنّ انكشاف الحقيقة أمامها يُعقّد الأمور، وركونها إلى رضا محاولة لتجنّب الوحدة والعزلة والخوف والمصاعب. رضا يريد اغتسالاً وتطهّراً من خطأ يعتبره، ضمنياً، خطيئة؛ ومينا تتحصّن بعالمها الصغير مع ابنتها ومن أجلها، وخوفاً من عالمٍ أوسع يُكشِّر عن أنيابه لحظة تلو أخرى.

يبني الثنائي صنايعي ومقدّم فيلمهما هذا (مسابقة الدورة الـ71 لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021) برويّة مدهشة. تفاصيل جانبية تحضر، كأنّها تُنير شيئاً من المُبهم في المتن. الملامح الحزينة حدّ الاكتئاب تبدو كأنّها فعلٌ حقيقيّ، والصدمة ـ المرتسمة على وجهِ امرأة وحيدة ـ تكشف عمق الهوّة التي تفصلها عن عالمٍ يفرض نفسه عليها.

الشخصيات الأخرى تُكمِل ما يُفترض به أنْ يكون مشهداً حياتياً، فإذا بتجوّلها مع مينا ورضا يُحوّلها إلى مرايا إضافيّة، كلّ منها يعكس شيئاً من خراب بلد واجتماع، ومن تقهقر أفرادٍ وعلاقات. الرماديّ غالبٌ في إضاءةٍ تؤكّد، غالباً، ما يعتمل في ذاتٍ وانفعال وتأمّل، وبعض الحيوية في الإضاءة امتدادٌ لمتنفَّسٍ سينمائيّ يُعين، ولو قليلاً، على خروجٍ مؤقّت من بؤس عيشٍ، وألم حياة، وشقاء علاقات.

فعلياً، يسرد "أغنية بقرة بيضاء" المسارين معاً، بأبسط أسلوب وأسْلَسِه. ضمنياً، يحمل فيلم بحتاش صنايعي ومريم مقدّم نقداً عنيفاً (يتحرّر من كلّ مباشرةٍ وخطابيّة وفجاجة وشعارات) للإعدام، مستعيناً بسجال خفر عن علاقة النصّ الديني بوقائع الحياة، ومحاولاً تبيان الجحيم اللاحق بأفرادٍ، إنْ بسبب إعدام قريبٍ أو حبيبٍ، وإنْ بعد كشف حقائق غير مكتشفة أثناء المحاكمة. يسأل النصّ (سيناريو المخرِجَين، بمشاركة مرداد كورشْنيا)، ظاهرياً، عن مغزى الإعدام وجدواه، لكنّ ترجمته السينمائية تتفنّن في صوغ معاداته، أخلاقياً وثقافياً، لهذا الحكم، عبر صُور تضجّ بنتائجه (الحكم)، والصُور مُلتَقَطة بسلاسةِ راوٍ بصريّ يلفظ جُمل حكايته بهدوءٍ، يُخفي غلياناً وغضباً وقهراً، وهذا يظهر في شخصية رضا، المتألِّق في تقديمها، إنسانياً وانفعالياً وعقلياً.

يسأل النصّ أيضاً عن ثأرٍ معلَّق، إذْ يُقدِّم "أغنية بقرة بيضاء" نسختي نهايةٍ تتأجّجان في ذات مينا، بعد معرفتها بأنّ رضا "قاتل" زوجها، وبأنّ تقرّبه منها تكفير عن ذنب وتعويض عن خطأ وبحث عن مغفرة: أتضع السمّ في كأس حليب البقرة، أم تتركه يعيش نزاعاته الكثيرة وحده، مع ما تحمله تلك النزاعات من قسوة؟

لن يكون الثأر مهمّاً. الدرب إليه طويلٌ وقاسٍ، وفائدته ملتبسة النتائح، كالتباس نسختيّ النهاية، والالتباسان أساسيّان، والتوهّم ضروري، فالواقع أعنف من كلّ تصوير حقيقيّ لمساراته وتفرّعاته وتأثيراته ونتائجه.

المساهمون