"أسوأ شخص في العالم": أسئلة عصرية تحتاج إلى أجوبة

"أسوأ شخص في العالم": أسئلة عصرية تحتاج إلى أجوبة

13 ديسمبر 2021
ريناته راينسْفي: أفضل ممثلة في "كانّ 2021" (باسكال لو سغْروتان/Getty)
+ الخط -

اقتطع المخرج النرويجي يواكِم تْريَر 4 أعوام من حياة جولي (ريناته راينسْفي)، بطلة فيلمه "أسوأ شخص في العالم" (2021)، أو "جولي (في 12 فصلاً)" كترجمة عربية لعنوانه الفرنسي، فاختار المرحلة العمرية المهمّة في حياتها، وأحاطها بأسئلته المعقّدة عن الوجود وأسبابه، والنفس البشرية وتقلّباتها، ليس فقط من الناحية الفيزيائية، التي تعكسها الملامح والتجاعيد، بل من خلال تقلّب العاطفة وتغيّرها، وانقلاب المزاج، وعدم رسوِّه على طريق واحدة، انطلاقاً من أحلام وكوابيس هذه الشابة الفوضوية، التي ستبلغ 30 عاماً، عندما بدأت حياتها تتعقّد وتتّجه نحو الغموض واللاشيء والفوضى.

حينها، تداخلت عندها الأولويات، ولم تعد تعرف ما تفعله. تركت دراسة الطب، بحجّة أنّ الطب لم يكن أحد أحلامها. عادةً، يُعتَبر هذا التخصّص حلم طلبة كثيرين، وحلم عائلاتهم أيضاً، ومؤشّراً على ذكاء كلّ من يدرسه. جولي رأته مهنة مستقبلية لا إبداع فيها، لذا بدأت تدرس علم النفس، لتفهم سلوك البشر أكثر. بعد فترة، تركته أيضاً، إذْ وجدت أنّه لا يلبّي رغباتها المهنية في الحياة. ثم بدأت تجربة جديدة، باختيارها الفنّ. أرادت أنْ تكون مُصوّرة محترفة، تمضي بقية حياتها في هذا المجال، تحبس الأحداث والذكريات في أطرٍ تلتقطها بآلة التصوير.

ارتبطت بعلاقة غرامية مع كاتب قصص مصوّرة مشهور، يُدعى أكسل (أندش دانيَلسن لي)، أُعجبت بحياته وطريقة عيشه، فأقامت معه في بيت واحد. بين حين وآخر، تكتب مقالات أدبية عن مواضيع حسّاسة، كالعلاقات الحميمة. لاحقاً، تشعر أنّ علاقتها به باتت جامدة. لهذا، أقامت علاقة أخرى مع النادل أيفِنْد (هربرت نوردْرِم)، متواضع الذكاء والوسامة، بعد تعرّفها عليه في حفلة لم تكن مدعوة إليها، كانت تمرّ قرب مكان إقامتها صدفة، فأعجبتها الأجواء، ودخلتها متطفّلة. التقت هذا الوافد الجديد إلى حياتها، وتبادلت معه نقاشاتٍ يراها كثيرون تافهة وغير سوية. افترقا، ثم التقيا بعد فترة، صدفةً أيضاً، في مكتبةٍ تعمل فيها. كان مع زوجته، لهذا افترق كلّ واحد منهما عن شريكه في ما بعد، ثم تزوّجا، لتشعر لاحقاً أنّها تركت حياتها وراءها، من دون أنْ تحقّق شيئاً، بسبب التسرّع والمزاج والفوضى والحَمل.

هذه المقدّمة القصصية ضرورية لفهم عناصر الفيلم، المرتكز على "ثيمةٍ" أكثر من أي شيء آخر. فيه، يطرح يواكِم تْريَر أسئلة عصرية مهمّة عن العلاقات بين الأفراد: الزوج ـ الزوجة، الابنة ووالداها المنفصل أحدهما عن الآخر، الابنة وأخواتها غير الأشقّاء، المرأة ومستقبلها وماضيها. إضافةً إلى مشاكل النسوية، بعد توظيفه مشهداً مهمّاً للغاية: واجهت مذيعةٌ أكسل، بقولها إنّه ينتصر للذكورية على حساب المرأة، ما أدّى إلى نقاشٍ حامٍ. شاهدت جولي اللقاء، مستعيدة فترة علاقتها به، فأحسّت أنّها كانت تابعة له، ومتأثّرة بطريقة كلامه وطرحه الأفكار، بثقافته الموسوعيّة ونظرته إلى الأشياء. لهذا، تركته لتتحرّر من التبعية، أو ممّا اعتبرته خادشاً لأنوثتها.

علاقة أخرى تُقيمها جولي مع شخصٍ تتفوّق عليه ذكاءً. كأنّ العلاقات بين الرجل والمرأة يجب أنْ تُقاس بالميزان، ليتمّ حفظ الانسجام بينهما. كما أشار تْريَر إلى الأمومة والمُعاصَرة والحرية والاستقلالية والمشاكل البيئية، ومفاهيم عدّة، ومصطلحات مختلفة، تثير اهتمام العصر ونقاشاته عنها.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

استغل يواكِم تْريَر قوالب واتجاهات سينمائية عدّة. أحياناً يُدخل المُشاهد في أجواء رومانسية وأحلام وردية، ينتقل بعدها إلى الكوميديا، كمشهد لقاء جولي وزوجها أيفِنْد وصديقيهما، بعد تعاطيهم مخدّرات اعتقدوا أنّها منتهية الصلاحية وغير فعّالة، لكنْ حَدَث العكس، فبلغوا مرحلة مُتقدّمة من النشوة. استعار تْريَر عيونهم ليرى عبرها العالم المحيط بهم. أوجد مقالب مُثيرة لضحكٍ مستمر، كما فعل مع كلمات الراوي، اللطيفة والساخرة، في تعامله مع تقلّبات جولي وفوضها. ثم غيّر مزاجه كلّياً، ببثّه مَشاهد محزنة للمرحلة التي وصلتها جولي، خاصة بعد علمها أنّ أكسِل بات في مرحلة متقدّمة من مرض سرطانيّ، تُسبِّب له ألماً شديداً.

الشابة الجميلة والحيوية، ذات الحركات الخفيفة، والمتطلعة إلى المستقبل، حفظت الدرس أخيراً. بدأت تلتحم بالواقع، وتتعرّف أكثر على جدرانه العالية، وطرقه الملتوية، وشعابه المختلفة. لكنّ سؤالاً يُطرح انطلاقاً من عنوان الفيلم: أكانت جولي سيئة إلى هذا الحدّ، كي تكون "أسوأ شخص في العالم"؟ الجواب بسيط: لم تكن مثالية، لكنّها لم تكن سيئة. لاحقت نزواتها وفوضاها. في النهاية، تفطّنت لهذا كلّه، وبدأت تنسجم مع أسس الحياة التي يفرضها الواقع، انطلاقاً من فرضيات المجتمع، وتوقعات الناس ونظراتهم. معطيات يجب أنْ تتعاطى معها كي لا تُصبح "أسوأ شخص" بالنسبة إليهم.

لم يعتمد يواكِم تْريَر، رفقة إسكيل فوغْت، المتعاون معه في كتابة السيناريو، على العناصر الكلاسيكية للسرد، التي تركّز على قصة واحدة تُدعَم بأحداثٍ ومواقف ثانوية تُعينها، بل اختار قصصاً ومواقف مختلفة، كان بوسعه حذف بعضها من دون قَطع خيط السرد الذي اعتمده. هكذا جاءت اللمسة وروح التجديد، ناقلاً روح المدينة وأسرارها عبر تتبّع خطوات جولي فيها، مُجمّداً الشخصيات والكومبارس في الشوارع، وتاركاً بطلته تقفز وتجري فيها، كأنّه يحقّق رغبتها في إيقاف الزمن لتحقيق ما تريد. ساهم المُصوّر كاسبر توكسِن في إبراز هذه الجمالية، باتّخاذه زوايا تصوير مناسبة وذكية.

استطاع يواكِم تْريَر توظيف سحر ريناته راينسْفي ـ جائزة أفضل ممثلة في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ وجاذبيتها وقوّة ملامحها، عاكساً إياها بما يخدم الأحداث. كأنّه، عند كتابته السيناريو مع فوغْت، استحضرها، فحدث انسجامٌ مع جولي، فبدا الدور مشغولاً على مقياسها، وتعاطت معه بحِرفية وإقناع. كما حدث مع أندش دانيَلسن لي، بتأديته دور الكاتب الرزين المنتصر لفكرته وطريقة حياته وأفكاره، والمُحبّ الوفي الذي لا يريد التغيير. ورغم وضوح فارق السنّ بين الممثلين، أظهرا انسجاماً واضحاً، كأنّهما مع فوغْت ورقة رابحة لتْريَر، بعد مشاركتهم إياه في أفلامٍ عدّة له، عرفت نجاحاً كبيراً، فلم يتخلّ عنهم في جديده هذا.

المساهمون