"أسرار" لوك تويمانس: الخوارزميات تتأمّل وجهاً نازياً

"أسرار" لوك تويمانس: الخوارزميات تتأمّل وجهاً نازياً

08 ابريل 2021
تقوم فكرة العرض على إخضاع اللوحة لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليلاته (بوزار)
+ الخط -

في محاولة لتوضيح المسافة بين الأساليب الفنية التي ينتجها العقل البشري، والتّطور المتسارع يوماً بعد يوم في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتي باتت تتدخل في مختلف تفاصيل حياتنا في العقود الخمسة الأخيرة، بما في ذلك الفن والموسيقى والسينما والغرافيكس وصناعة الإعلان؛ افتتح في الثالث من إبريل/نيسان الجاري، معرض فنّي من نوع خاص، استضافه مركز Bozar الثقافي في العاصمة البلجيكية بروكسل، وكان من اللافت أن المعرض، الذي سيستمر شهراً (ينتهي في الثاني من مايو/آيار المقبل)، لا يتضمّن سوى لوحة واحدة فقط للفنان البلجيكي لوك تويمانس، اتخذ المعرض من اسمها "أسرار" Secrets عنواناً له.

المثير في هذا "العرض" الاستثنائي، أنه جاء نتيجة إقامة فنية/علمية جمعت بين لوك تويمانس (1958)، أحد أكثر التشكيليين البلجيكيين الأحياء تأثيراً في الحركة الفنية العالمية اليوم، ومواطنه لوك ستيلس (1952)، مؤسس مختبر الذكاء الاصطناعي في جامعة بروكسل الحرة.

وقد بدأ برنامج "العالِم المقيم"، الذي تشرف عليه BozarLab ومؤسسة Gluon الجمع بين العالِم والفنان منذ عامين (2019-2021)، تحت عنوان FLOW، في محاولة لاكتشاف الطريقة التي يفهم بها الذكاء الاصطناعي العمليات الفنية، بالتطبيق على لوحة "أسرار" لتويمانس.

تقوم فكرة العرض على إخضاع اللوحة لتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليلاته، تحت إشراف فريق علمي تشكّل من باحثين ومتخصّصين في مجال الذكاء الاصطناعي (من ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وتركيا)، يقوده البروفيسور لوك ستيلس. ولتحقيق ذلك، تم تسليط شبكة كاملة من الخوارزميات على اللوحة لدراستها، في محاولة للكشف عن الأساليب الفنية التي انتهجها العقل البشري في إنتاجها.

أيضاً، وللإجابة عن عدد من الأسئلة التي باتت مشروعة اليوم في ما يخص التطور المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي، كان من أهمها: هل يمكن للمعادلات الحسابية أن توفّر نظرة ثاقبة إلى الأساليب الفنية؟ وهل تنظر الخوارزميات إلى الفن بنفس الطريقة التي ننظر بها نحن البشر إليه؟ وما هي العلاقات المستقبلية المحتملة التي ستربط بين الفنون المختلفة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي AI؟

طبقات المعنى

تصوّر اللوحة التي رسمها لوك تويمانس عام 1990، تحت عنوان Secrets، النصف العلوي لرجل مغمض العينين، استوحاها الفنان من إحدى صور ألبرت شبير Albert Speer، المهندس المعماري ووزير الأسلحة والذخيرة النازي، وأحد أكثر مبعوثي هتلر ولاءً خلال الحرب العالمية الثانية.

بدأت تجارب فريق البحث تحت قيادة ستيلس، الذي درس اللغويات، وكان نشطاً في عالم الفن في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يتحوّل إلى علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، بتمكين الخوارزميات من تتبع الأصل الفوتوغرافي الذي استند إليه الفنان في رسم لوحته. وكان السؤال المبدئي للتجربة: هل ستتمكّن الخوارزميات المعقّدة من الوصول إلى أصل اللوحة، والتعرّف على الأصل البشري الحقيقي للوجه المرسوم؟ بالنسبة لفنان له بصمته الخاصة مثل لوك تويمانس، فإن تضليل المشاهد عن رؤية أصول لوحاته هو أيضاً أحد أهدافه الفنية الرئيسية، لذلك يصبح الأمر مثيراً عند استخدام الخوارزميات لتفسير لوحاته والكشف عن أصولها.

ربما، لهذا السبب يقول تويمانس في افتتاح المعرض، الذي بيعت تذاكره لمدة أسبوعين: "كان من المدهش لي في بداية التجربة أن أكتشف "طبقات المعنى" المتعددة التي تولّدها لوحة واحدة لدى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، ولأنني من الذين لا يحبّون العيش بمعزل عن الواقع المحيط بهم، ولا أحب لرأسي أن يدفن في رمال التكبّر، رأيت أنّ عليّ، كما على أيّ فنان معاصر، استيعاب أن التطورات التكنولوجية الحديثة لا بدّ لها من التأثير على أعمالنا، حتى ولو كنّا لا نزال نقدم فناً "عتيق الطراز" مثل الرسم، وكان الخيار المطروح أمامي هو: هل أقبل بوضع أعمالي تحت مجهر هذه التجربة المثيرة؟ أم أرفض استخدام التكنولوجيا كأداة للفن؟ والحقيقة أنني تعلّمت الكثير من هذه التجربة".

تكنولوجيا
التحديثات الحية

وجه "الإنكار"

بمقارنة سريعة بين الأصل الفوتوغرافي لوجه ألبرت شبير، ولوحة "الأسرار" التي رسمها تويمانس، نلاحظ أن الفنان جعل عيني شبير مغلقتين، كمن لا يريد النظر إلى عيون أخرى تحدّق فيه، فيما جعل شفتيه مزمومتين في تحدّ وإصرار على الصمت، مع تظليل خفيف في منتصف الشفة العليا، في إشارة ربّما إلى شارب هتلر الشهير.

هنا، يربط العقل البشري سريعاً بين اسم ألبرت شبير والحكم النازي، فيما تشير صيغة الجمع في عنوان اللوحة "أسرار"، إلى ما نعرفه عن تاريخ شبير من إنكاره إبادة اليهود، على الرغم من أنه كان من القلائل المقرّبين من هتلر، وهو الإنكار ذاته الذي تجلّى صراحة في كتب شبير التي نشرت بعد إطلاق سراحه عام 1966، ومن أبرزها: داخل الرايخ الثالث Inside the Third Reich وسبانداو.. اليوميات السرية Spandau The Secret Diaries.

ينظر البروفيسور لوك ستيلس إلى نفسه باعتباره فناناً أولاً، قبل أن يكون متخصّصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، على الرغم من أنه عضو في المعهد الكتالوني للأبحاث والدراسات البيولوجية المتقدمة في برشلونة (UPF/CSIC)، وأستاذ فخري للذكاء الاصطناعي في جامعة بروكسل الحرة (VUB)، حيث أسس مختبراً لعلوم الذكاء الاصطناعي بها عام 1983، كما أسس في 1996 مختبر "سوني لعلوم الكمبيوتر" في باريس، إلا أن أبحاثه في مجال الذكاء الاصطناعي تركز بشكل أساسي على تطور المعالجات اللغوية واستخدام الأنظمة المعقدة، مثل الشبكات العصبية والخوارزميات الجينية، في تطوير الذكاء الاصطناعي، رغم كل هذا النشاط والحضور العلمي، يشارك ستيلس منذ سنوات في عالم الفن بوصفه أميناً للمعارض التشكيلية والمؤلفات الموسيقية المخصصة للأوبرا.

هذا التقارب بين عالمي الفن والتكنولوجيا، منح ستيلس مكانة خاصة في أبحاث الذكاء الاصطناعي وعلاقتها بالفن. لكنه يشرح الأمر من وجهة نظر مغايرة. يقول: "ينصبّ التركيز الرئيسي اليوم على الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد فقط على البيانات وأنماط التعرّف، لكن ما أجده أكثر إثارة للاهتمام هو الذكاء الاصطناعي الذي يركّز على الإنسان، والذي يعمل مع اللغة والدلالات لخلق المعنى". 

"هذا هو ما يجعل الفن، باعتباره المثال النهائي للتعبير البشري، مثيراً للاهتمام بالنسبة لي كباحث".

لم تتمكن الخوارزميات المعقّدة من الوصول إلى أصل اللوحة

المرجعية التاريخية

لوك تويمانس صاحب اللوحة التي خضعت للتجربة، يعتبر أن المعرض يقدّم تجربة فريدة على أكثر من مستوى، الأوّل أنه: "ليس عرضاً فنياً ثابتاً أو منتهياً، لكنه عرض تفاعلي، يختلف تأثيره من مشاهد إلى آخر"، مضيفاً: "ما نقدّمه هنا ليس سوى قمّة جبل الجليد، فهذا المشروع البحثي بدأناه قبل عامين، ولم ولن يكتمل أبداً، لأنّنا لا نتوقّع منه نتائج نهائية حاسمة، بل إن هذا الغموض الذي يوقعنا فيه، لهو أحد الأشياء التي يجب علينا الاستمرار في النضال من أجلها، لأنه لا وجود لفن بلا غموض".

من جانبه، يرى ستيلس أن "أيّ عمل فني يقوم في الأساس على استثمار الخبرة البشرية وتحويلها إلى فن ملموس، لذلك يمكننا تعريف الفن بأنه "ما لم نتوقّع حدوثه"، شيء خاص وفريد من نوعه، بهذا المعنى، لا تزال قدرات تكنولوجيا عالم الذكاء الاصطناعي، مقارنة مع العقل البشري محدودة جداً".

نعم، يمكننا استنتاج نتيجة التجربة العلمية في كلمات ستيلس، لم تنجح الخوارزميات المعقّدة في التوصّل إلى أصل اللوحة، لكن برامج الكمبيوتر استطاعت تتبّع كيف قام الفنان بتحويل وتحسين الأصل بمهارة، من خلال تأطير اللوحة بالألوان الباهتة، والشكل المربع للوجه، والأنف الحاد والمظهر الانطوائي، وحتى التلميح إلى شارب هتلر، حددت عملية البحث كل هذه العناصر كحاملات محتملة للخلفية التي جاءت منها الصورة، وهو ما يشرحه ستيلس وتويمانس خلال العرض عبر عدد من الفيديوهات الحوارية التي جمعت بينهما أثناء الدراسة، وفي إحداها يقول ستيلس: "لم يفاجئني فشل الخوارزميات في التعرّف على أصل اللوحة، فقد تم تطوير أغلب هذه التقنيات على أساس المشاهد والصور الحقيقية، لكنها لا تزال تفتقر إلى الكثير من إمكانيات التفكير البشري، أو ما يمكن لنا أن نسمّيه المرجعية التاريخية الجمعيّة" للإنسانية".

ما سيبقى فريداً

على الرغم من التجربة المثيرة التي خاضها الفنان والعالِم، لا يزال تويمانس يؤمن بأن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يمكنها أن توفّر العديد من الأدوات الجديدة لأرشفة تاريخ الفن العالمي وإعادة النظر إليه من زوايا جديدة، تمنحه أبعاداً تاريخية وثقافية صحيحة. وكمثال على ما يعنيه يضيف تويمانس: "لوحة دافيد حاملاً رأس جالوت David with the Head of Goliath لكارافاجيو Caravaggio، نحن لن نعرف أبداً أن رأس جالوت المقطوع هو صورة ذاتية لكارافاجيو نفسه، لو لم نكن نعرف شكل كارافاجيو الحقيقي، إذن فنحن لن نفهم المعنى الحقيقي وراء اللوحة إلا إذا عرفنا أن الرسام حُكم عليه بالإعدام، وأن هذه اللوحة كانت بمثابة التماس منه إلى البابا للعفو عنه.

هذه المعرفة تساعدنا اليوم في فهم عمل فني رسم قبل 400 عام، وربما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في النظر إلى أعمال أخرى بنفس الحدة التوثيقية بعد 200 أو 500 عام من الآن". حقيقة أخرى لا يمكن لألبرت شبير نفسه، أو غيره، أن ينكرها كما أنكر غيرها، ألا وهي أن الذكاء الاصطناعي صار له اليوم تأثير ملموس على كل شيء في حياتنا الراهنة، وغالباً من دون علم منّا بذلك، فهل يشكل هذا "علامة تحذير" في رأي ستيلس؟ يقول: "بالتأكيد، أنا ضد استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل جذري في أي شيء له تأثير مباشر على حياة البشر، في أمور مثل القضاء أو توزيع الثروات أو الأجور أو تقرير مصائر البشر، لا يمكن لخوارزميات آلة ما مهما بلغت قوّتها أن تحدّد مثل هذه الأمور، وهي أشياء صرنا نراها تحدث للأسف في بعض البلدان مؤخراً. أعمل في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي منذ 40 عاماً، وما زلت على اقتناعي التام بالعيوب الأخلاقية والتقنية في مجال الذكاء الاصطناعي. لا يمكن للخوارزميات أن تمتلك مشاعرنا أبداً، هذا هو ما سيبقى فريداً لدينا نحن البشر".

المساهمون