"أرض الذَّهب": ميلٌ إلى المُشْرِق في سيرة الصوماليّ

"أرض الذَّهب": ميلٌ إلى المُشْرِق في سيرة الصوماليّ

03 اغسطس 2022
"أرض الذهب": سيرة رجل وبلد وصراعات وتحدّيات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

أحياناً، من وسط الخراب، وبشكلٍ غير منتظر، تظهر حكايات متفائلة، تبدو ـ لشدّة غرابتها ـ كأنّها لا تمتّ إلى الواقع بصلة، أو كأنّها إحدى ضربات الحظ النادرة، التي تصيب كائناً ما، وتُغيّر حياته.

هكذا بدت، تقريباً، حياة الصومالي مصطفى حسن، في وثائقيّ الفنلندية إنكا أشتي، "أرض الذّهَب" (2022). لكنْ، هناك شيء خاص في تكوينه، يُعدِّل، ربما، مسار حياته دائماً نحو الأحسن. يُرجّح هذا اجتهاداً نفسياً واجتماعياً، يُغلّب التكوين الداخلي للفرد على غيره من المؤثرات الخارجية المحيط به. في هذه الحالة، مصطفى هو مَنْ يُضفي الروح المتفائلة على الفيلم، لا صانعته كما يبدو في ظاهر مسار السرد الحكائي، المُحاط بثراء جمالي يوحي بأنّ ميل الوثائقي إلى المُشرق في شخصه إرادوي مُتعمَّد، بينما يشي سلوك مصطفى، بمحمولاته الثقافية متعدّدة الطبقات والمتشابكة فيما بينها، بميل فطري إلى الجيّد والمتصالح مع بقية البشر.

خبر يصله من عمه، مفاده أنّ هناك معادن نادرة في باطن الأرض التي يملكها في "صومال لاند"، وأنّ هناك عرضاً مُقدَّماً من شركة صينية، تريد شراءها بنصف مليون دولار أميركي. هذا الخبر يضع حكاية "أرض الذّهَب" على سكة تواصلها الدرامي، ويفتح المجال واسعاً لملاحقة مجريات أحداثها وتطوّرها، الموزعة بين مكانين: فنلندا والصومال. الخبر أربك عيش مصطفى، الرجل الثلاثيني، وعائلته، في مُستقرّهم الفنلندي. عليه الآن تقرير مصيره بنفسه، بينما سيحرم أطفاله من هذا الحقّ، كما حُرم منه يوم جاء طفلاً، في بداية تسعينيات القرن الماضي، مع عائلته إلى فنلندا، هرباً من الحرب الأهلية التي نشبت هناك.

لم يتقبّل أطفاله الصغار فكرة الرحيل من فنلندا، فهم لا يعرفون غيره وطناً. يعرف مصطفى ثقل الفكرة، لأنه عاشها وعرف مراراتها يوم ترك بلده، وقدِم إلى أرض بيضاء، لم يرَ مثلها من قبل. لشدّة بياض ثلجها، ظنّ أنه سُكَّر. حَسَد أهل البلد لكثرة ما عندهم منه، وحسدهم على بياض بشرتهم، التي لم يدرك لماذا ليس عنده مثلها. عاش طفولته مختلفاً، لكنّه قرّر التوافق مع وسطه. تُعينه على قراره ممرضة المدرسة، التي ستكون أماً له في منفاه. تعلّم اللغة جيداً، وتفوّق في المدرسة والعمل. صار فنلندياً "جيّداً". تزوّج واستقرّ، وظنّ أنّه لن يرجع إلى المكان الأول، الذي جاء منه. اليوم، يُناديه الذّهَب والمعادن النفيسة. رغبته في تحسين أحوال عائلته وأهله هناك، تدفعه إلى التفكير في العودة إلى موطنٍ لا يعرفه جيّداً. يغتني المسار الأول من حكاية مصطفى بمرجعيات وثائقية (فيديو)، يوظّفها التوليف (ماغنوس سفينسون) لصالح المُنجز النهائي.

يوم جاء إلى فنلندا، كان البلد يعاني أزمة اقتصادية، تُثير في الناس كراهية الغرباء. لن تُمحى قسوة تلك السنين من ذاكرته. لكنّه كان يُبعدها دائماً، ويستبدلها بآمال أكبر وأحلى. يتذكّر مراراً قول جَدّه له، عندما كان طفلاً: "ستغادر البلد هذا إلى آخر بعيد، لكنّك سترجع إليه في نهاية المطاف".

هل تُعيد الذاكرة الآن الفكرة التي طالما تمنى تحقيقها، لكنّه كان يؤجّلها، مدفوعاً برغبة الملاءمة مع المكان الذي حَلّ فيه؟

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لا يتطرّق النصّ السينمائي إلى ذلك، المُشبع بلغة سرد بصرية وحوارية، تكاد تكون شعراً. يترك الأحداث تسير وفق تطوّرها الواقعي. العائلة تنتقل إلى مدينة هرجيسا، وفيها تبرز شدّة التناقضات الثقافية، بين ما جُبلوا عليه أطفالها، وما يرونه نشازاً وغريباً في موطن والدهم. مثل شخصيته المسالمة المتفهّمة للآخر، لا يدخل الوثائقيّ في عمق صراعات سياسية وقبلية، لا تزال فاعلة في الصومال، وتترك أثرها على مشروعه، الذي قرّر المضي به وحده.

المعادن موجودة، والذهب وفير. لكنّ الحكومة تُعيق منحه إجازة تعدين رسمية لأرض يملكها. القبلية الحاكمة متخاصمة مع قبيلته، لهذا، لا هو ولا مشروعه مرحّب بهما. الشركات الصينية تريد الهيمنة على ثروات "بلاد الذهب". تُفسِد سلطات محلية، وتوقف مشاريع منافسِه لها، ويظلّ مصطفى كما كان دائماً، بسيطاً ومتفائلاً. يُقرّر الانفتاح على سكّان القبيلة المهيمنة، ويطرح عليهم فكرة مشاركته استخراج وتعدين ما في باطن "أرضهم".

الاشتغال السينمائي لافتٌ في بساطته وجمال مفرداته السينمائية. الموسيقى الموضوعة له (آرا أوبيري) باهرة، تتناغم مع تضاريس روحية وطبيعية متباينة الدواخل. السيناريو (إنكا أشتي وهانا كاربَنين) يوجه الكاميرا إلى تفاصيل مُعبّرة عن حالات قلقة وتوترات ناشئة من اختلاف الثقافات. في فنلندا، يرصد سلوكيات عنصرية مبطّنة، لكنّه يوثّق مشاعر إنسانية مُجسّدة في علاقة العائلة الصومالية الرائعة مع "جدّتهم" الفنلندية الطيبة. في هرجيسا، يمنحُ النصُّ المكتوب الخيالَ مجالاً واسعاً. يُعطي للقصص الشعبية المحكية بُعداً بصرياً مُتخيّلاً، وممتعاً في جمالياته.

الطبيعة، متباينة التضاريس في المكانين، يوصي النصُّ برصدها، لأنّها جزءٌ مهمّ من المكوّن النفسي لمصطفى. قسوتها في موطنه الأم تُعلّمه الصبر وتَحمّل الصعاب، ومن ليونتها في موطنه الثاني تعلّمه الإصغاء لحكمة زوجته (نجاح حسن)، التي هي مثله تميل إلى كلّ ما هو طيب وسهل، وتفضّله على الإشكاليّ، المُفضي إلى صراع.

لا يُغلق الوثائقيّ عدسات كاميراته على نهاية حاسمة. نجاح المشروع لا يُزيل تعقيداً نفسياً آخذاً بالتراكم عند أطفال مصطفى. تترك صانعته البحث فيه للزمن. ربما ستعود إليهم يوماً لتعرف ماذا فعلت "أرض الذّهَب" بهم، كما تبحث اليوم في الذي صنعته "أرض السُكَّر" بوالدهم.

المساهمون