"أخطر رجل في أوروبا": خبث السياسة والمصالح على حساب الضحايا

"أخطر رجل في أوروبا": خبث السياسة والمصالح على حساب الضحايا

12 نوفمبر 2021
أوتّو سكورزيني في مدريد، 15 نوفمبر 1962: نازيّ يتعامل أعداؤه معه (جياني فيرّاري/ Getty)
+ الخط -

 

عند سؤاله عن كيف يجب أنْ يذكر التاريخُ النازيَّ أوتّو سكورزيني، يُجيب الإسرائيلي رافي إيتان: "يجب أنْ يذكره كرجلٍ قدّم خدمة عظيمة لقوات الدفاع الإسرائيلية". إيتان عميل سابق للـ"موساد"، ووزير سابق. أبرز سببٍ لشهرته معقود على مشاركته في اعتقال النازيّ أدولف أيخمان في الأرجنتين، وجلبه إلى إسرائيل (مايو/ أيار 1960) لمحاكمته عن جرائمه العنصرية ضد اليهود، زمن الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ثم إعدامه (11 أبريل/ نيسان 1961 ـ 31 مايو/ أيار 1962). المفارقة الصادمة أنّه سيكون، هو نفسه، من سيُجنِّد سكورزيني للعمل في الـ"موساد". أما سكورزيني، فمُدلَّل عند أدولف هتلر، لقربه الشديد منه، ولتنفيذ مهمات خاصة له، ولإنقاده موسوليني من الأسر (19 سبتمبر/ أيلول 1943).

رجلٌ يتباهى بنَدبة على خدّه الأيسر (أنا فخورٌ جداً بها)، سيحتاج إلى 14 مشاجرة بسيوفٍ وأسلحة يدوية حادّة، كي يحصل عليها، لكونها مفخرة طلاّب جامعيين في فيينا، مطلع عشرينيات القرن الـ20. هذا تقليد أصيل في ألمانيا منذ القرن الـ18: الجمعيات الطالبية المحافظة تُسوّي خلافاتها بمبارزات بالسيوف، والندوب التي تُترَك، تُشبه أوسمة شرف تُعبِّر عن شجاعة أصحابها.

هذا مرويٌّ في "أخطر رجل في أوروبا: أوتّو سكورزيني في إسبانيا"، وثائقيّ إسباني (67 دقيقة، 2020، "نتفليكس") لبيدرو دي اينشافي غارثيا وبابلو أثورين ويليامس، يعتمد على نحو ألفي وثيقة محفوظة لدى عائلة بادرو بعد وفاة "الأسطورة" النازيّة، تتكوّن من مذكّرات يومية وجوازات سفر ومراسلات ودفاتر مصرفية ومعاملات، وغيرها. وثائق يرغب لويس ماريا بادرو في بيعها إلى أميركيين وألمان وآخرين (بعد وفاة والده، الرافض كشفها خوفاً من النازيين رغم مرور سنين على هزيمتهم)، من دون جدوى، قبل طرحها في المزاد العلني، ووصولها إلى الجندي الأميركي السابق والمؤرّخ الحالي رالف بي غينيس، الذي لا يزال إلى الآن يُنقِّب فيها، مُحلّلاً وكاشفاً ما تحتويه من أسرار.

صُور فوتوغرافية وتسجيلات مُصوّرة تتابع سيرة أوتّو سكورزيني (فيينا 1908 ـ مدريد 1975)، منذ عشرينيات القرن الماضي (الجامعة والمبارزة والندبة) حتّى سبعينياته. لقاءات مع مؤرّخين وصحافيين وباحثين (تصوير خافيير غونثاليث) في أميركا وإسبانيا تحديداً، تتداخل مع مادة أرشيفية (مونتاج نوفري مويا ولويس بيريث)، وموسيقى (فرنثيسكو ألبينيث) تُلائم أجواء حربٍ ونازية وديكتاتوريات وعلاقات استخباراتية تُخالف المنطق، لسرد حكاية نازيٍّ تتعامل معه "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" والـ"موساد" الإسرائيلي. هذا يُشبه الاستفادة الألمانية الغربية من خدمات اقتصاديّ نازيّ آخر يُدعى يالمار شاخت (رئيس بنك الرايخ ووزير الاقتصاد بين عامي 1934 و1937)، الذي يصدر حكم ببراءته في محاكمات نورمبيرغ. شاخت سيكون أحد أبرز داعمي سكورزيني في حياته اللاحقة على الحرب.

 

 

ألمانيا (الغربية)، الخارجة من حربٍ مُدمِّرة، تريد استعادة ازدهارها الاقتصادي، فتتعاون مع نازيّ؛ والإسرائيلي، الذي يُطارِد النازيين، يتعامل مع نازيّ لإحباط مشروع ناصري خاص بإعادة تسليح الجيش المصري؛ والأميركي، المنتصر على هتلر، يعمل مع نازيّ بعد تسهيل محاكمتين اثنتين له في "داخاو" عام 1947، لإصدار حكمٍ ببراءته. أحد "المدافعين عنه" حينها، من بين عشرات ضباط التحالف، بريطاني يُدعى يو توماس، تعرّض لتعذيبٍ على أيدي النازيين عند اعتقاله في معسكر "بوخنفالد": كيف يُمكن لهذا الرجل، الذي تعذّب بوحشية على أيدي رجال الـ"غستابو"، أنْ يُدافع عن ضابط "أس أس"؟ الجواب لغينيس: هناك أوامر بمساعدته لتبرئته، ليُجنَّد لاحقاً كعنصر استحباراتي لصالح الغرب.

النازي واحدٌ، يُصبح في إسبانيا زمن الحكم الديكتاتوريّ لفرنكو "نجماً" في المجتمع والتجارة، ومُقرّباً من قادة فرنكويين يتماهون بالتجربة النازية. تجارة أسلحة وحديد، استيراد وتصدير، تهريب نازيين إلى أميركا الجنوبية: أمورٌ يبرع فيها سكورزيني، فتصنع له علاقات مع زعماء كثيرين، كالمصري جمال عبد الناصر والأرجنتيني خوان بيرون، وغيرهما. له شبكة يكتشف غينيس، بفضل وثائق، أنّها مرتبطة باغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، من دون اتّهام سكورزيني نفسه بتنفيذ العملية. علاقاته الإسبانية توصله إلى تأدية دور أساسي في "ميثاق مدريد" (1953)، القاضي بتحديد أمكنة خاصة لقواعد عسكرية أميركية في إسبانيا. لسكورزيني دورٌ، يكاد يكون وحيداً، في بناء تلك القواعد، فتطلب الحكومة الأميركية، بفضل نصيحة القوات الجوية الأميركية، التعامل معه: "يبيع معاطف من جهة، ويحاول بيع أسلحة لليونان من جهة أخرى" (لويس ماريا بادرو).

الدقائق الـ67 للوثائقي كافية لتقديم شخصية رجلٍ يلتزم النازية إلى اللحظة الأخيرة من حياته: "مخلص دائماً لمُثله الاشتراكية القومية. غير خائن لزملائه النازيين. لن يُدين الهولوكوست أبداً. يُدافع عن أفعاله حتى النهاية". إنّه أوتّو سكورزيني، الذي يتعامل معه، في زمن السلم، من هُم أعداؤه، في زمن الحرب. أفرايم زوروف، مدير "مركز سيمون ويزنتال" في القدس المحتلّة، المعروف بأنّه آخر الأحياء من متعقّبي النازيين، يقول إنّه "لا يُمكن تحقيق العدالة حيث تهيمن السياسة". قولٌ ينطبق أيضاً في حالات كثيرة.

التكثيف الحكائيّ، المستند إلى وثائق وتحاليل مختلفة، يصعب اختزاله. قصص تُروى عن سكورزيني. ابنته فالتراوت حاضرة. سهراته وأعماله. كمٌّ كبيرٌ من المعطيات مروية بسلاسة توثيقية، تحتاج إلى تمعّن وتنبّه كبيرين، لوفرة المعلومات والأقوال والتفاصيل والصُور، التي تُشكِّل سيرة رجلٍ، يُمثِّل أخبث وأكذب ما في السياسة والمصالح والعلاقات العامة من معانٍ.

المساهمون