"آيا" لسيمون جيار: المسّ بمحرّمات سينمائية من دون إخلال بالجماليات

"آيا" لسيمون جيار: المسّ بمحرّمات سينمائية من دون إخلال بالجماليات

07 أكتوبر 2021
صُوّر الفيلم في جزيرة "لاهو" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

"آيا" (2021)، للفرنسي سيمون كوليبالي جيار، مُحيّر في وصف نوعه. الكتابة بمخيال روائي، والاشتغال بأسلوب وثائقي، ليسا أمراً جديداً، وله تسمية تدلّ على اختلاط النوعين: دوكودراما. لكنْ، ما يخرج من بين يديه يتجاوز هذا الوصف، والمؤكّد أنّه غير عابئ به.
وجد جيار في جزيرة "لاهو" ما يستحقّ الاهتمام والنقل إلى الشاشة، فهتف، كما هتف قبله بيكاسو: "أنا لا أبحث. أنا أجد". وجد واقعاً فنقله، ولأنّه يعاين الواقع بعين السينمائيّ الحصيف، اقترح استبدال شخصيات حقيقية بأخرى مُجسّدة لها، من دون تغيير. ترك كلّ شيء كما هو، كأنّه يريد بهذا إحداث حالة اغتراب، يُمكن بها تخيّل أمكنة وشخصيات أخرى تشبهها. حتى الفوارق، المتعارف عليها أكاديمياً، بين الشخصية الروائية المتخيّلة والأخرى الحقيقية، ذات لحمٍ ودم، فكّكها أسلوبياً. شخصيته المختارة لتأدية دور البطلة (ماري خوسيه كوكورا) من سكّان الجزيرة نفسها، وحياتها متداخلة مع حياة آيا، وتكاد تتماهى كلّياً معها، كأمّها (باتريسيا إينابايو). إنّها "برسونا" بسيطة وواقعية، لا تشبه في تعقيدها النفسي "برسونا" (1966) السويدي إنغمار برغمان.

التداخل الحاصل على أرض جزيرة "لاهو" (تابعة لساحل العاج، وقريبة من أبيدجان) مُعقّد. تداخل بيئوي وحياتي. الجزيرة تتآكل. يلتهمها البحر حرفياً، ويقضم منها أجزاءً كلّ يوم. مياهه الغاضبة تلطم أطرافها بعنف، لتغرقها شيئاً فشيئاً، وتُحيلها إلى عدم. المشهد العام، الذي وجده جيار عند وصوله إليها مع مجموعة صغيرة من المساعدين (لا يحتاج إلى غيرهم، لأنّه يتولّى بنفسه إتمام أكثر مستلزمات صناعة فيلمه: السيناريو والإخراج والتصوير وهندسة الصوت)، عكس حالها هكذا: سكّانها يتهيّأون لمغادرتها، خوفاً من غرقهم، وآيا تُصرّ على البقاء فيها، إذْ تعاند فكرة مغادرة عالمها الجميل، وجنّتها التي لا تعرف غيرها. في أعماقها، لا تريد ترك طفولتها والذهاب إلى المجهول. أما الطبيعة، فمُنشغلة بانتقامها، ولا تترك فرصة لخصومها للتراجع عن فكرة هجر الجزيرة، إلى الأبد.


المَشاهد المُوثّقة والمُتخيّلة تجرّ المُتفرّج إليها بسلاسة نادرة، وتدعوه إلى أنْ يعيش العالم المتقلّب لآيا. في المشهدين، الصبية نبعٌ يتدفّق منه كلّ الجمال الطاغي على الشاشة. في مرافقتها، ينغمس المتفرّج كلّياً في عالمها. لن يحدث دائماً مثل هذا في السينما. عذوبة روحها وبراءتها سبب ذلك، ربما. ضحكتها ترنّ في الأذن، وتجعل كلّ مناكفة مع والدتها مزحة، لا خبث فيها ولا تبطين. هل كانت الجزيرة من قبل هكذا مثلها، بريئة، ثم جاءت شرور البشر وخرّبتها؟ تسمع الصبية، وهي على مشارف النضج، حكايات تقارن بين ما كانت عليه جزيرتها وما أمست تكابده من ضمور. همّة الحفّارين الشباب، المتحمّسين لنبش قبور موتاهم ونقل بقاياها معهم إلى خارج الجزيرة، تذكّرها بماضٍ وجذور لا يريدون تركها تموت.

الزمن الخاص لآيا، فيترجّح بين نهاية طفولتها وبداية دخولها سنّ النضج

إعلان موت الجزيرة من إعلان مغادرتها. أما الزمن الخاص لآيا، فيترجّح بين نهاية طفولتها وبداية دخولها سنّ النضج. مُعاندة الزمن غير مجدية، وما فعله الإنسان بالبيئة يتلقّى عقاباً قاسياً عليه. صيده العشوائي بسفن عملاقة أفرغ البحر من أسماكه، وصار الجوع يطرق أبواب سكّان الجزيرة. الغرق جاء بفعل انجراف رمال الساحل وتآكلها، بعوامل من صنع الإنسان. البحر الغاضب ينتقم من مُدمّريه من دون رحمة. دورة الشرور تتوالى. تبرز تفاصيلها بين ثنايا سرد سينمائي متماسك، موجع بقدر وجع صبية انقطع تسلسل نضجها السوي، وانتقل من المكان الذي تحبه إلى آخر تجهله.
بعد أنْ صار الخطر داهماً، وصديقها الوحيد يغادر الجزيرة مع أهله من دون وداع، اقتربت لحظة الحقيقة. على آيا الآن الخضوع لضغوط الزمن، وخوف أمها عليها من البقاء. هذه اللحظة المؤلمة من حياتها تضع نهاية لطفولتها ولعالمها الجميل الأول، ويمهّد لدخولها عالماً جديداً لا تحبّه، لكنّها مجبرة على التعايش معه. المشهدان يقسمان حياتها: صبية تدخل عمر المراهقة، وتلعب مع الجيران، وتمشي ليلاً على الساحل، ولا هَمّ عندها ولا خوف. تتسلّق أشجار الجوز وتقطف منها ما يكفي لسدّ جوعها. في المشهد الآخر، الحزين، تظهر آيا مع شبابٍ في مدينة أبيدجان، يدخلون مرقصاً. بعد انقضاء الليل، تخرج منه إلى البحر. تتأمّله بصمت، وترفع رأسها نحوه بأسى، كأنّها تعاتبه على ما فعله بها.

يُعلن المشهدان نهايتين مؤلمتين لعالم مختلّ التوازن نعيشه، ويعرف سيمون جيارـ صاحب الوثائقيات المنشغلة بالهَمّ الأفريقي، كما في "أنيما" (2013) و"يار" (2013) و"بولي بانا" (2017) ـ كيف ينقله إلينا ببساطة مدهشة، تشبه بساطة عيش آيا وتقلّباتها، المنقولة بأسلوب سرد بصري متفرّد، يدعو إلى مراجعة المفاهيم السينمائية، ويؤكّد على خذلان جمودها، ما دام هناك من يتجرّأ على المساس بمحرّماتها، ويتجاوز خطوطها الحمراء من دون أنْ يخلّ بالوظيفة الجمالية والفكرية للفيلم السينمائي.

المساهمون