الموسيقى اللاتينية: أغانٍ تجوب شوارع الجزائر

الموسيقى اللاتينية: أغانٍ تجوب شوارع الجزائر

02 سبتمبر 2018
تأثر فن الملحون أيضاً بالإيقاعات الشعبية (فيسبوك)
+ الخط -
يعتقد معظم الناس أن مصطلح "الموسيقى اللاتينية" يشمل الإيقاعات الخاصة بأميركا الجنوبية، مثل: التانغو، والرومبا والسامبا، ولكن في الحقيقة، إن هذا المصطلح أوسع بكثير مما هو متعارف عليه. يشمل مصطلح "الموسيقى اللاتينية" والموسيقى الإسبانية، وأحياناً الإيطالية، وقد يمتد ليصل إلى موسيقى الأنديز، وكذلك الموسيقى الاستوائية. يختلف الناس في وضع حدود واضحة لامتدادات هذا الإيقاع المجنون، ولكنهم يجمعون على تغلغله عميقاً في أرواحهم، فإذا انبعث إيقاع لاتيني من مكان ما، تبعته الروح والجسد معاً من دون أدنى تردد.

عانق الإيقاع اللاتيني الموسيقى العربية عبر الجغرافيا والتاريخ منذ القدم، وامتدت جذوره ليحط رحاله في الجزائر، ويغوص عميقاً عبر ترابها. لا تكاد تخلو الأغاني الجزائرية من الطابع الأندلسي أو من التانغو والسالسا. هذه الموسيقى الشعبية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر هي عبارة عن مزيج واسع من إيقاعات مختلفة، ولكن الإيقاع اللاتيني هو الأساسي فيها، ويعتبر الحاج محمد العنقة عراب هذا اللون الموسيقي.

تستقر الموسيقى الشعبية الجزائرية في العاصمة؛ فلا تخلو الشوارع من هذا الإيقاع المليء بالحنين وبحب الحياة. أعطى الحاج محمد العنقة الحياة لهذا اللون الموسيقي عن طريق مزج إيقاعات منعشة وبراقة، ولاقى فوراً نجاحاً مبهراً. الموسيقى الشعبية كانت دخيلة على المجتمع الجزائري في تلك الفترة، ولكنها سرعان ما سحرته واحتلت الشوارع والحفلات وحتى اللاوعي لديه، فهي من الشعب وإلى الشعب.

جمعت الموسيقى الشعبية سكان الجزائر واتفقوا على عشقهم لها، على الرغم من اختلاف جنسياتهم ومعتقداتهم. وضع الحاج العنقة النغم في خدمة الكلمة، وامتد هذا العطاء خمسين سنة، غنى خلالها ما يقارب 400 أغنية وسجل مائة ألبوم.

مزج اللون الشعبي بين الآلات الشرقية الكلاسيكية الأندلسية والآلات الغربية. فجمع الدبكة (الإيقاع) والدف، وكذلك آلة الماندول، والكمان والبانجو، فضلاً عن البيانو. تتغذى الموسيقى الشعبية على الشعر القديم مع خلفية من التراث، شكوى المهاجرين، البلد الذي نفتقده. تعزف موسيقى الشعبي على مقامات عدة، منها: موال، زيدان، غريب، جركة، رمل ممايا، سيكا، مزموم، ساحلي، الراوي أو النهوند في الشرق الأوسط.

أخد هذا اللون الكلمة واللحن معاً كمصدر قوة له واعتبر الشعر "الملحون" أو كما يسميه المشارقة "المحكي" منبعه وقالبه. في القرن السادس عشر، استخدم الشعراء في المغرب العربي اللغة العامية على نطاق واسع. هذا الأسلوب كان كامل المعنى والنضج وسمّي في العامية "القصيد". حكى الشعر الملحون عن الحب والحرب، عن الغربة والحزن، وغنى أهم مطربي الشعبي تلك القصائد القوية، مستخدمين لحناً خفيفاً على الأذن والروح، ومن أمثلة ذلك: قصيدة الحراز، وقصيدة حوز مالطا.

مرت على موسيقى الشعبي حقبتان اختلفت فيهما الأهداف وطريقة التعاطي معها: فترة ما قبل الاستعمار، وفترة ما بعد الاستعمار. يلاحظ المستمع أن توجهات موسيقى الشعبي قبل الاستعمار كانت في غالب الأحيان دينية، وكانت أقرب إلى المديح منها إلى موسيقى اجتماعية أو شعبية. ارتبطت في بادئ الأمر بالقيم الدينية المتعارف عليها في الجزائر، وحاول الشعراء والمنشدون محاربة ومقاومة الاستعمار من خلالها. كانت موسيقى الشعبي الأقرب إلى المجتمع، إذ كانت تغنيها وتستمع إليها الطبقة البسيطة واعتبرتها الناقل الأمين لرسالتها ومخاوفها، مستخدمة لغة يفهمها أبناء الشعب.

لم يتغيّر هذا الفكر بعد الاستقلال، فلجأ الشعب إلى الموسيقى من أجل نقل هموم مرحلة جديدة من حياتهم، مرحلة غامضة ومقلقة. دورها كان رئيسيا في دعم الثقافة الجزائرية بكل تركيبتها ومكوناتها.

قطعت موسيقى الشعبي الحدود، وحطت الرحال في بلدان غربية عدة، أهمها فرنسا. ارتبطت بأسماء العديد من أبطالها الذين اجتهدوا كي لا تندثر وتزول؛ نذكر منهم: الحاج محمد العنقاء الملقب بـ"الكاردينال" وهو أمازيغي الأصل اسمه الحقيقي "ايت أوعراب محمد إيدير". كذلك لا يمكن أن نذكر موسيقى الشعبي من دون الإشارة إلى الهاشمي قروابي "أسطورة الفن الأصيل"، ومن أبرز ما غنى: "يوم الخميس" و"عويشة والحراز" و"البارح كان في عمري عشرين" و"يا الورقة" و"يوم الجمعة خرجوا لريام".

فضلاً عن هؤلاء، نذكر محمد الباجي، المغني والمؤلف الذي كتب رائعة "يا المقنين الزين" و"بحر الطوفان" و"فلسطين". ولا يمكن المرور على موسيقى الشعبي من دون ذكر اسم دحمان الحراشي، الذي خطف قلب كل مشتاق الى وطنه بأغنية "يا الرايح وين مسافر". يجدر الذكر أن موسيقى الشعبي عرفت تقريبا ثلاثة أجيال وهي على التوالي: الجيل الأول يتكون من الحاج أمحمد العنقاء ومصطفى سعيدي الملقب بالشيخ الناظور والحاج مريزق وسعيد المدّاح ومحمد قبايلي وخليفة بلقاسم و الحاج منوّر وتيجيني بن رازم ودحمان الحرّاشي ومحمد ماروكان وعلي مبروك والحسناوي وسليمان عازم.

الجيل الثاني يتكون من عمر العشاب والحاج حسن السعيد وبوجمعة العنقيس والهاشمي قروابي وحسيسن والطاهر بن أحمد ومعزوز بوعجاج وعمر مكرازة ومحمد زربوط. أمّا الجيل الثالث فهو يتكون من عبد القادر شاعو وعمر الزاهي وعبد الرحمان القبي وكمال بورديب وعبد القادر قسوم وحسيسن سعدي وعبد القادر شرشم والشاذلي معمّر وإبراهيم باي والحبيب بن الطاهر ومحمد طوبال ورشيد نوني وعمر بوجمية الى آخره، وهناك جيل معاصر كان له تأثير في تغيير إيقاع الأغنية الشعبية منهم: عبد المجيد مسكود وعزيوز رايس ورضا دوماز وكمال مسعودي ونور الدين علام ونصر الدين قاليز ولمراوي محمد ومصطفى يانس وديدين كاروم.

كانت موسيقى الشعبي ولا تزال الناقل الأمين لهموم الشعب؛ حملت صوته عالياً ليصل إلى أبعد نقطة. أدى هذا اللون الموسيقى دوره بنجاح مبهر، فأسعد الناس وأبكاهم وتكلّم لغتهم وحافظ على هويتهم وقيمهم، فحافظوا على وجوده.

دلالات

المساهمون