"دلّة قهوة" لثائر العزّة: حيوية الروائي القصير

"دلّة قهوة" لثائر العزّة: حيوية الروائي القصير

21 أكتوبر 2019
جمعة صدوق: براعة التعبير الصامت (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
منذ اللحظات الأولى لـ"دلّة قهوة" (2018، 9 دقائق و25 ثانية) لثائر العزّة، المعروض في برنامج "نكبة ديجا فو"، في الدورة الثانية (16 - 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان سينما فلسطين الدوحة"، ينكشف المناخ العام لحياة بائع القهوة، المدعو جمعة (جمعة صدوق). مناخ يرتكز على تفاصيل دقيقة، يبدأها يوميًا بالاستيقاظ الباكر، وارتداء الملابس، وصُنع القهوة التي يملأ الدلّة بها، ثم الخروج من منزله قبل انبلاج الفجر، لبيع القهوة لسائقي سيارات الأجرة، أو لعابرين باتجاهات مختلفة.

وهذا برفقة أغنية "وحدن بيبقو" لفيروز، التي تبدو كأنّها تهمس بها. فالهمس سمة سينمائية في "دلّة قهوة"، رغم أنّ الكلام قليل، وربما لهذا يُقال همسًا، فثائر العزّة يريد لغة السينما، لا جملًا وتعابير وكلامًا، وهذا أساسيّ وجميل.

التكثيف المعتَمد في تقديم الشخصية منسحبٌ على الفيلم برمّته، المُنجز ضمن مشروع "أحبّ بيت لحم"، والمُنتج في "كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة". اختيار الأسود والأبيض جزءٌ من اختبارٍ يريده ثائر العزّة كمحاولة بحث في كيفية تحويل المَشاهد إلى مرايا، تعكس نفوسًا ومناخات. التقطيع هادئ، والتوليف (العزّة نفسه) يتولّى ترجمة المتتاليات البصرية، التي تسرد، بأقلّ الكلام، فصولاً من يومياتِ فلسطينيّ، يحاول عيشًا هادئًا وسط ضغوط الحياة. والتصوير (إبراهيم حنضل)، المستعين بلقطات مقرّبة أحيانًا، يُتيح توغلاً سلسًا في مسام روح جمعة وذاته، منذ اللحظات الأخيرة لنومه صباحًا، حتى عودته إلى الساحة حيث يعمل.



لكن لا قصّة تُروى، ولا ثرثرات تُقال، ولا كلام يخاطِب مباشرة أو يُنظِّر هباءً. كأنّ "دلّة قهوة" مصنوع ليكون فيلمًا صامتًا، بالأسود والأبيض، ويكتفي بملامح وجه جمعة، وتعابير عينيه، وحركة جسده جالسًا أو ماشيًا. الجُمل الواردة على ألسنة البعض، والموجَّهة إليه، قليلة، وتُقال بنبرة أقرب إلى الهمس، هي أيضًا. مسائل بسيطة وعادية للغاية. أغراض يجلبها أحدهم إليه، وعبارات شكر ومودة تُقال في مناسبة كهذه.

هذا يتبدّل لاحقًا. يطلب أحدهم من جمعة عملاً عابرًا، لقاء مبلغ أكبر من ذاك الذي يتقاضاه يوميًا من بيع القهوة. لكن العمل يشي بخبثٍ وحقارة، إذْ يتولّى هذا الـ"أحدهم" مهمّة جمع عاملين قلائل لهدم منزلٍ فلسطينيٍّ، يريد الاحتلال الإسرائيلي هدمه. التكثيف الدرامي والجمالي، هنا، أجمل من أنْ يُختزل بكلمات. تعابير الوجه كافية. ردّة فعل جمعة كافية. عودته بصمت إلى "ساحته" كافية. بيعه القهوة كافٍ. استعادته روتين يومياته الهادئة والمتواضعة كافية. لكن هذا كلّه لن يكون استسلامًا، بل قناعة وتواضعًا والتزامًا أخلاقيًا بعيشٍ بسيط وصادق.

وإذْ يكشف "مهرجان سينما فلسطين الدوحة" حيوية الفيلم الروائي القصير، المُنتج في العالم العربي، فإنّ "دلّة قهوة" يؤكّد أن هذا النوع السينمائي قادرٌ على منح فلسطين، أفرادًا واجتماعًا وعلاقاتٍ وانفعالاتٍ وتفاصيل يومية، مرآة بصرية لقولٍ جميل، رغم قسوة الواقع.

المساهمون