50 عامًا على "وودستوك": مقاربات بصرية لحدثٍ تاريخيّ

50 عامًا على "وودستوك": مقاربات بصرية لحدثٍ تاريخيّ

14 اغسطس 2019
"أخذ وودستوك": الوحمة الجنونية (فيسبوك)
+ الخط -
نصف قرن من الزمن غير قادر على تغييب حدثٍ، كذاك الحاصل في الولايات المتحدّة الأميركية، بين 15 و17 أغسطس/ آب 1969، رغم أنّ كثيرين في العالم اليوم غير مُنتبهين إليه. حدثٌ أُريد له أن يكون دعوة إلى الحبّ والسلام، عبر أنماطٍ مختلفة من الموسيقى والغناء (فولك، روك، بلوز، سول)، في زمنٍ بدا كأنّ كلّ شيء فيه ينهار. المجتمع الأميركي يعيش إحدى أكثر مراحله التاريخية ارتباكًا وغليانًا، ويعاني شبابُه تحديدًا نوعًا من ضياعٍ وسط هزّات تتلاحق، فتُصيب الجميع بضربات مؤذية. حرب فيتنام، المترافقة وانتشار ثقافة الـ"هيبي"، تزيد الطين بلّة. اغتيالات وعنصرية وتمزّق اجتماعي ـ اقتصادي، عناوين تعكس وقائع يومية في ستينيات القرن الـ20.
 
من هذه الثقافة وتلك الوقائع، يُصنَع الحدث: "مهرجان وودستوك للموسيقى"، الذي يُختَزل بترويج دعائيّ يقول التالي: "3 أيام من السلام والمقاومة. مئات الهكتارات للتجوّل فيها. تَنَزَّهْ لـ3 أيام من دون أن ترى ناطحة سحاب أو إشارة حمراء. أطْلقْ طيارة من ورق. تَشمّسْ. اصنَعْ وجبات طعامك. تنفّسْ هواء نقيًا".

حكاية المهرجان معروفة. لكن معرفة "الحدث" متأتية لاحقًا، إذْ رغم أنّ عدد الحاضرين مُنتقل من 50 ألفا (الرقم المتوقّع أثناء التحضير) إلى نصف مليون، إلّا أنّ شهرة المهرجان منبثقة من فيلم وثائقي بعنوان "وودستوك" (1970)، لمدير التصوير والمخرج الأميركي مايكل وادْلي (1939)، الحائز على "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي (1971). وإذْ يكتسب الفيلم أهميته من كونه الوثيقة السينمائية الوحيدة، التي تحفظ وقائع كثيرة من تلك الأيام "المجيدة"، فإنّ له ميزات عديدة أخرى، لعلّ أبرزها مُشاركة مارتن سكورسيزي (1942) وتيلما شونمايكر (1940) في توليفه.

هذا غير عابر البتّة. فسكورسيزي قادمٌ حينها إلى السينما، وإلى "وودستوك"، عبر فيلم وادْلي، من حياة كهنوتية معطّلة، ومن ارتباكات في النفس والروح، ومن أسئلة الحياة والموت والعلاقات. يومها، كان يخطو "خطواته الأولى" في الاكتشاف والوعي والمعرفة، وفي صنع أفلامٍ تُساهم لاحقًا في الانقلاب على سطوة الاستديوهات الكبيرة، وفي إطلاق ما يُعرف بـ"هوليوود الجديدة"، مطلع سبعينيات القرن الـ20.

أما شونمايكر، فستُصبح المونتيرة الأساسية لأفلام كثيرة لمارتن سكورسيزي، بعد تعرّفها عليه في نيويورك، منتصف ستينيات القرن الـ20، والتي تعمل معه منذ "من ذا الذي يقرع على بابي (Who’s That Knocking At My Door)"، المُنجز عام 1967.

أهمية "وودستوك" الوثائقيّ متعدّدة المصادر. لكن أبرزها متأتٍ من مرافقته تفاصيل الأيام الـ3 لمهرجانٍ ضخم، يُجمع كثيرون من معاصريه والمشاركين فيه بسلميّته وصفائه وحصانته ضد أيّ خطأ أو فعل جرمي أو إساءة، فهو "خالٍ" من أي تحرّش أو اعتداء جنسيين، ومن أي عراك أو عصبيّة أو نفور أو غضب أو توتر، ومن أي صدام أو اضطراب أو تطاول. والفيلم ـ المنصرف إلى تصوير الحفلات الموسيقية والغنائية لمغنين وموسيقيين يعتلون خشبة المسرح للغناء والعزف، منفردين أو ضمن فرق ـ يجمع في سرده البصري توثيقًا للحدث، ومتابعة لموسيقى ذاك العصر، متحرّرًا من تسجيليته، لبلوغ حالة من التماهي بالمناخ العام، وبتفاصيل كثيرة فيه، فيتحوّل إلى شهادة عن "حركة الاحتجاج الشبابيّة"، نهاية الستينيات نفسها.
 
يغوص "وودستوك" أيضًا بتفاصيل أخرى، تتعلّق بالتحضيرات السابقة لتلك الأيام الـ3 (المُمدَّدة يومًا ونصف يوم لشدّة الحماسة ووفرة الحاضرين)، مُنتقلاً بعدها إلى متابعة وصول الجمهور، وزحمة السير، الموصوفة بـ"الجنونية"، التي يُسبِّبها تدفّق الناس إلى موقع المهرجان، في المدينة الصغيرة "بيتل" التابعة لولاية نيويورك. بالإضافة إلى "تسجيل" ردود فعل سكّان المدينة، و"الحياة" في فناء المهرجان ومحيطه.

بعد مرور 40 عامًا على المهرجان، يُعيد المخرج التايواني آنغ لي (1954) "تركيب" المشهد برمّته، في "أخْذ وودستوك (Taking Woodstock)"، المعروض للمرة الأولى دوليًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2009) لمهرجان "كانّ" السينمائي. يتّخذ آنغ لي من الروائي المتخيّل أسلوب عمل، لإعادة سرد حكاية واقعية، استنادًا إلى كتاب الثنائي إليوت تيبر (1935 ـ 2016) وتوم مونتي (1952): "أخْذ وودستوك: قصّة حقيقية عن أعمال شغب وحفلة موسيقية وحياة" (2007).

تيبر نفسه، الفنان والسيناريست والكاتب الأميركي، هو أحد منظّمي المهرجان، بالتعاون مع المنتج الموسيقي مايكل لانغ (1944)، ويظهر في فيلم آنغ لي عبر الممثل ديمتري مارتن (1973)، في شخصية مهندس ديكور، يعود إلى بلدة صغيرة في شمال نيويورك، حيث يُدير والداه فندقًا صغيرًا. عودته ناتجة من سوء أحواله في "غرينويتش فيلاج". يستلم مهمّة إدارة الفندق. والده يعاني مشاكل مالية، ووالدته متسلّطة. يكتشف صدفة أنّ البلدة المجاورة ترفض السماح بإقامة مهرجان موسيقيّ على أرضها، فيجتهد للحصول على حقّ تنظيمه على أرضه.

يسرد الفيلم تلك التفاصيل بهدوء، رغم ارتفاع نسبة التوتّر والارتباكات والصدامات والتعقيدات، عشية بدء المهرجان تحديدًا، مُحاولاً إيجاد توازنٍ سينمائيّ بين حكاية إليوت تيبر ووالديه من جهة، وحكاية إليوت تيبر والمهرجان من جهة أخرى. في السياق نفسه، ينكشف الاضطراب الكبير الذي يُصاب به أبناء بلدة إليوت، المعتادين عيشًا هادئًا للغاية، قبل أن تتحوّل بلدتهم إلى ساحة صاخبة بالضجيج والموسيقى والزحمة والناس، وما يستدعيه هذا كلّه من تبدّل أحوال غير متوقّع.

وإذْ يُنجَز "وودستوك" لآنغ لي في الذكرى الـ40 لـ"مهرجان وودستوك"، فإنّ الأميركي مايك ريتشاردز يصنع وثائقيًا جديدًا عنه، عشية الاحتفال بمرور نصف قرن على "3 أيام من الحبّ والسلام"، بعنوان "خَلْق وودستوك (Creating Woodstock)". بحسب المعلومات الرسمية عنه، فإنّ الفيلم الجديد هذا يتوغّل في كيفية صُنع المهرجان، مستعينًا لذلك بمقابلات أصلية مع أناسٍ يُعتبرون "مفاتيح أساسية"، إلى جانب لقطات أرشيفية وصُوَر فوتوغرافية نادرة وغير معروفة سابقًا (يُفترض بعروضه التجارية أن تكون قد بدأت في 13 أغسطس/ آب 2019).

دلالات

المساهمون