إيغور سترافنسكي وموت الموسيقى: الربيع المقدّس مستمرّ منذ قرن

إيغور سترافنسكي وموت الموسيقى: الربيع المقدّس مستمرّ منذ قرن

07 ابريل 2019
هل ساهم فيما وصلت إليه الموسيقى الكلاسيكية من احتضار؟
+ الخط -
ظل إيغور سترافنسكي (1882 - 1971)، الذي مرّت أمس 48 عاماً على رحيله، يرفض فكرة أن تعبّر الموسيقى عن شيء، سواء أكان فكرة، أم عملا أدبيا، أم دراميا، أو حتى رقصة. إلا أن واحدة من أهم أعماله الموسيقية، ولدت عن طريق فكرة.


 

ليس ثمة تناقض في ذلك؛ فماهية الموسيقى تنطلق، بالنسبة لـ سترافنسكي، من مجرّدات تقوم على المضامين الموسيقية والآلات، بصرف النظر إن كانت باليه بتروشكا، أو الربيع المقدس، تعود في نسيجها الدرامي إلى مضمون أسطوري من الفولكلور الروسي، فالموسيقى بالنسبة له جانب موضوعي، وليس تعبيرياً.

شكلت أعمال سترافنسكي منعطفاً في الموسيقى الكلاسيكية، سواء في ثوريتها، أو ابتكاراتها الموسيقية. مع هذا، ظل ينظر إلى نفسه كموسيقي كلاسيكي بدرجة أساسية، وليس حداثياً.

لكن، هل ساهم سترافنسكي في ما وصلت إليه الموسيقى الكلاسيكية من احتضار؟ إذ أصبحت مجالاً فنياً خاضعاً إلى مختبرات التجريب لاستنطاق أصوات جديدة ومختلفة تثير الغرابة.

هل لعب سترافنسكي هذا الدور في موسيقى القرن العشرين وما بعدها؟ أم أنه خاضع لمرحلة ثورية، كانت في كل المجالات سمة القرن العشرين. عدا أن دور الأوبرا منذ عقود، وتحديداً منذ سبعينيات القرن الفائت، لم تعد تشهد أعمالاً موسيقية كلاسيكية جديدة تحظى بشعبية، بل انحصرت في دوائر نخبوية؛ فكل الأعمال التي تحظى بشعبية تعود إلى مرحلة كلاسيكية من الباروك، حتى العصر الرومانتيكي. وبالمناسبة، فقد دافعت النخب المثقفة في أوروبا، وتحديداً فرنساً، عن سترافنسكي، حين شكل عمله "الربيع المقدس" صدمة للجمهور.

كان "الربيع المقدس" صفعة سترافنسكي للعصر، أو القرن العشرين. ربما، مثلما أراد إريك هوبزباوم، بأن يؤرخ بداية القرن العشرين انطلاقاً من عام 1914؛ أي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، أو مقتل أرشيدوق النمسا في سراييفو على يد شاب صربي، ما أدى إلى اندلاع الحرب في أوروبا؛ فإنه من الممكن الإشارة إلى القرن العشرين انطلاقاً من 1913؛ تحديداً منذ فجر عرض باليه "الربيع المقدس" لسترافنسكي في باريس، ليشعل ثورة في صفوف الجماهير، ليفر وباقي أعضاء العمل من الباب الخلفي للمسرح، لتصبح، لاحقاً، من أهم كلاسيكيات القرن العشرين.

ربما يبدو ذلك من قبيل المبالغة، إلا أن الحرب ستنهش أوروبا، وكان سترافنسكي قد أعلن عن القرن العشرين في ثوريته الفنية، والتي ستفضي إلى الدادائية والسوريالية والتكعيبية وكل المجالات الفنية التجريبية. كان "الربيع المقدس" هو الباليه الثالث ضمن سلسلة تعاونه مع الفرقة التي يديرها الروسي سيرجي دياغيلييف.

إنه العام نفسه الذي صدر فيه "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، وبما فيه من ثورية على الشكل السردي من حيث التلاعب بالبنية الزمنية للسرد في نسبية كان أعلنها آينشتاين مؤذناً بفصل رهيب من قرن ستنضم فيه الحروب والكوارث إلى جانب الانفجار العلمي والابتكارات وثورات لا تهدأ، سيعقبه قرن أكثر فسوقاً وبلاهة، هو القرن الحادي والعشرون، بعودته إلى إحياء الأزمنة القديمة بحروبها ذات الطابع الديني.

يصادف أبريل/نيسان الجاري الذكرى الـ 48 لرحيل الموسيقي الروسي إيغور سترافنسكي، وهو الموسيقي الذي عاش كمواطن عالمي. ولد في روسيا ثم تنقل بين سويسرا وفرنسا ليصبح هناك جزءاً فاعلاً في الحداثة الفنية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، استقر في الولايات المتحدة ليصبح وطنه الثاني، كما ظل يقول. يبدو سترافنسكي، منذ البداية، مشاغباً وأيقونياً في ملامح القرن العشرين. بدأت مؤلفاته المبكرة متأثرة بريمسكي كورساكوف صاحب شهرزاد، وكان أول باليهاته "عصفور النار" ما زالت تحمل ذلك التأثر، وحققت نجاحاً كبيراً.

لكن سترافنسكي ستظهر شخصيته أكثر اكتمالاً في عمله التالي، "بتروشكا" عام 1911، ليس فقط في المضمون اللحني، وإنما برزت ملامح ثوريته بنزوعه الواضح إلى كسر اللحن، سواء بعملية التقطع اللحني، والتغيير المستمر للسرعات، إضافة إلى أنه أعطى الإيقاعات دوراً لم يكن حاضراً في السابق. وثمة أمر آخر يتعلق بمساحة الآلات النفخية.

أعماله الأولى للباليه كانت دائماً نتاج تعاونه مع سيرجي دياغيلييف. لكن ثوريته ستدفعه إلى إقناع دياغيلييف أن يستعين بالفنان الشاب بابلو بيكاسو، الذي سيضع تصميماته لراقصي الباليه، لتتوافق مع نزعات سترافنسكي الثورية.

تنتمي "بتروشكا"، مثل "عصفور النار" والعمل التالي لها "الربيع المقدس"، إلى الأساطير الشعبية الروسية، لكنها شكلت مساحة لمخيلة سترافنسكي، ليعطي الموسيقى دوراً غرائبياً في الرياضيات، أو لنقل إنها مع سترافنسكي نزعت نحو القالب أو البنية، لتكون أشبه بالنظريات الرياضية، وإن لم تكن تفضي إلى نتيجة واضحة، بل إلى لوغارتميات لا تنتهي، لولا أن الدور الإيقاعي سيكون بمثابة أحد الحلول الناجعة في إعطائها ذلك الملمح الحيوي، الذي يجعل من الضجيج مقابلاً للقلق الناجم عن العصر.

في مرحلة لاحقة، سيعود سترافنسكي محلّقاً على تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، فهو لم يتوقف عند موزارت أو بيرلوز، وإنما سيعود إلى موسيقى الباروك، وما قبلها إلى موسيقى القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وبهذا، أكد أن الحداثة مرتبطة بعالمية الفنان وليس محليته، ودائماً تسير بالموازاة مع تاريخ الفن باعتبارها جزءاً منه. في باليه "بتروشكا"، ستبرز الأصوات اللحنية الغريبة، ولنقل نزوع سترافنسكي إلى تدمير النسق اللحني، بتعارضات واستكشاف أصوات ضاجة او صادمة.

تحدث سترافنسكي عن هذا اللحن؛ إذ كانت في ذهنه صورة واضحة عن دمية، تنفخ فيها الحياة فجأة، وبشلال شيطاني من الآربيجيو موقّع بنغمات متعاقبة بسرعة، تفقد الأوركسترا صبرها، وبالمثل تقابلها بضربات محمومة على آلة الترومبيت. وتكون الحصيلة ضوضاء تبلغ ذروتها بانهيار الدمية المسكينة وموتها.

لعلها صورة مبطنة عن مأساوية العالم. مع هذا، لم تكن في الموسيقى أي ملامح تراجيدية، إنما جاءت مشاغبة ومرحة. في عمله السابق، "العصفور الناري"، استخدم البيانو، وتوظيفه في "بتروشكا" اتسم بتلك السمة المشاغبة، ويتضح الإربيجيو والكورد، ثم هناك بعض البنى العنقودية للألحان، والتفجر الإيقاعي. ولأول مرة، سيجد العازفون أنه لحن مضحك. لكن الفيلسوف ثيودور أدورنو، سيتهم اللحن بأنه استعار أجواء الكابيريهات، مُطلِقاً أعنف هجوم على سترافنسكي.

مع هذا، وضع سترافنسكي بصمته الخاصة على الموسيقى، وهي ربما البصمة التي ستؤدي إلى موت الموسيقى الكلاسيكية، إذا ما حملنا سترافنسكي هذا النهم التجريبي، الذي تحوّل إلى غرض رئيسي في الأعمال الفنية.

لكن مع سترافنسكي في الموسيقي، كما لدى بيكاسو في التصوير، جسّدت هذه البصمة تعبيراً عن عصر يميل إلى الأصوات الأكثر تعددية. وكما بيكاسو التكعيبي والذي حاكى كل الأنساق وصادق السورياليين، جرّب سترافنسكي أيضاً اللامقامية، أو ما أُطلق عليها مصطلح "النغمية الاثنا عشرية"، التي ابتكرها النمساوي شونبرغ، وظل سترافنسكي معارضاً لها.

تعمد سترافنسكي، أيضاً، أن يعطي ألحانه أصواتاً حدية، سواء من خلال الوتريات، وهي التي تتضح أيضاً في مرحلته الكلاسيكية، أي إعادة توظيف البنى اللحنية الكلاسيكية بزخرفتها وأساليبها من خلال نسق مختلف ورؤية غير لحنية، وهو ما يمكن ملاحظته في كونشرتو الفيولين مقام D ميجور. ومنها سيمفونيته من ثلاث حركات، وسيمفونية المزامير، التي كانت عبارة عن عمل يلعب فيه الكورال دوراً رئيسياً مستوحياً فكرة شكسبير في سيمفونيته التاسعة الذي أعطى الكورال دوراً في الحركة الرابعة، ثم يعود في الحركة الثانية بالدبل فوج، معيداً سمات عصر الباروك، وإن بطابعه الجاف لحنياً.

في "الربيع المقدس"، بدا فجّاً في مدخل من أصوات الباصون بوتيرتها العالية والتقطعات التي جعلت من العمل ضاجاً، ومفتقراً للميلودية، بينما كان العنوان اللافت يثير ملامح شديدة الرومانتيكية.

وبهذا العمل، وضع سترافنسكي قطيعة مع الرومانتيكية. لكن في هذا الرهان، أخذت الموسيقى الكلاسيكية تتقوقع في دوائر نخبوية تضيق يوماً عن يوم، مع ظهور منصات التواصل الجماهيرية الواسعة. فالموسيقى اليوم تستقطبها السينما، وأيضاً التلفزيون وإفيهاته الخاصة بالإعلانات والعروض الكبيرة؛ فالجماهيرية تطغى بملامح الطموح البرجوازي على النخبوي، وهو ما أدى حتماً إلى احتضار الموسيقى الكلاسيكية، بعد أن كان بيتهوفن قد أتاح للانفعال، أو التعبير الذاتي، أن يعبر عن الموسيقى، فاتحاً الباب للإفراط الرومانتيكي.

وحين أراد أن يعود سترافنسكي بالموسيقى إلى فن موضوعي يحركه الذهن، كان العالم مشحوناً بطاقة من القلق والتخريب، فانساق إلى تدمير اللحن، كما انزوت الصورة إلى الشكل المحطم.

المساهمون