بيغ بانغ ثيوري: كوميديا مُلطّخة بكراهية النساء والعنصرية

بيغ بانغ ثيوري: كوميديا مُلطّخة بكراهية النساء والعنصرية

03 أكتوبر 2019
مصرّون على ملاحقة النساء والتعرّض لهن (Imdb)
+ الخط -
يعد "ذا بيغ بانغ ثيوري"، أو"نظرية الانفجار العظيم"، من أشهر المسلسلات الكوميدية الجماهيرية، إذ حصد بمواسمه الاثني عشر ما يقارب العشرين مليون متفرج لكل موسم، وانتهى عرض المسلسل في مايو/ أيار الماضي. يستند المسلسل إلى قصة أربعة أصدقاء شبّان يحملون جميعاً كل الصفات النمطية المعروفة عما يسمّى بالمهووس الذكي، أو "النيرد". يفتقد كل من لينارد، وشيلدون، وراج، وهاورد، إلى معظم الصفات التي ترتبط عادةً بأبطال الأفلام والمسلسلات العالمية، إذ لا يُعد أيٌّ منهم وسيماً بالمعنى التقليدي، كما يفتقرون للثقة بالنفس ولا يمارسون بالطبع أي نوع من الرياضة.

هم مجموعة من الشبان العباقرة المهووسين بالقصص المصورة (الكوميكس)، ويعانون من شتى أنواع الحساسيات الجسدية، عقد النقص والصفات الشخصية التي تعد "غريبة الأطوار". إلا أنهم أيضًا يمثلون تجسيدًا كاملًا لنمط منتشر في المسلسلات والأفلام لما سنسميه تجاوزًا "الميسوجينية المحببة"، أو "كراهية النساء" الملطّفة.
منبع الميسوجينية المحببة هي أفعال وسلوكيات تهميشية كارهة للمرأة وتنتقص من حق النساء، إلا أنها مقبولة لأنها لا تنبع عن نمط الرجال الماتشو (الصورة التقليدية من الذكورة) أو ما يعرف بالذكور الألفا، إذ تعد هذه السلوكيات مضحكة أو مثيرة للشفقة بشكل محبّب و"غير مؤذٍ". لذلك، نجد أن هذا النمط من الأفعال العنصرية ضد المرأة، التي يراها كثيرون تحرشًا واضحًا، يتم التساهل معها كأنها أمور لا إهانة فيها ضمن نمط كوميدي يطرح بغرض الفكاهة لا أكثر.
حتى نشرح هذا المفهوم أكثر، يمكننا العودة إلى كثير من الأفلام والمسلسلات التي أسست لشخصية النيرد المحبب الانطوائي كبطل رئيسي، وساعدت في إشهار هذا النمط وجعله محبوبًا، وهو في كثير من الأحيان ذكر يمثل النقيض تماماً لمحددات "الذكورة التقليدية". يتم توضيح ملامح هذا النمط غالبًا باستحضار شخصيات مفرطة في ذكوريتها، يؤدون شكلًا عنيفًا مبالغًا به من الذكورة، بينما يكون البطل النيرد المحبب هو النسخة الفضلى، الأذكى والأكثر لطفًا وحساسيةً. هو في غالب الأحيان، الشاب "اللطيف" الذي يُساء فهمه، يتعرض للتنمر والسخرية من أقرانه، المنافس الأضعف في منافسة الذكور.
لكن، إذا ما أعدنا النظر في هذا النمط من الشخصيات، نجد أنها تمارس أفعالًا عنصرية، وتحرشًا بالغًا، عندما تحضر شخصية نسائية حولها. هم دومًا مهووسون بالملاحقة والتحرش والتربص بالنساء، وغيرها من سلوكيات التلاعب والاستخفاف والكذب عليهن، النيرد الميسوجيني "المحبب" لا يكف عندما يسمع كلمة لا، يصرّ بإزعاج يعتبر كوميديًا، وغالباً ما يتجاهل قواعد رضى الطرفين الأساسية.
تندرج معظم هذه السلوكيات تحت باب التحرش الجنسي، وغالبًا ما تتصاعد لتصل إلى حد الاعتداء الجنسي. نجد هذه الشخصيات ترتكب أفعالًا تعد شروعًا بالاغتصاب، وتتعامل الأفلام والمسلسلات مع هذا الأفعال على أنها مبرّرة ومضحكة ومثيرة للشفقة وتؤطرها على أساس أنها غير مؤذية. وحتى محبّبة بطريقتها الخاصة، ونقطة الجدل هنا هي اعتبارها كذلك لأنها تصدر عن نمط النيرد اللطيف الذي لا يحمل نوايا سيئة.
بالعودة إلى "بيغ بانغ ثيوري"، كُتبت الشخصيات الأربع في المسلسل بطريقة تجعل منها شخصيات محبوبة، هم نماذج لطيفة تبدي حساسيًة واكتراثًا ودماثةً في لحظات معينة. هذه الصفات لدى هؤلاء "النيردات" مصمّمة حتى تمرّ على المشاهد مظاهر الذكورة المسمومة التي يمارسها أبطال المسلسل المختلفون، كلٌّ على طريقته.
هوارد، المتحرّش الغريب ذو القلب الطيّب. يتم تصويره في المواسم الأولى من المسلسل على أنه يسعى بشدة إلى أن يكون فنانًا في التحدث للفتيات و"التقاطهن" من المقاهي وغيرها. يتربّص بالنساء في محيطه، يتحرّش بهن، ويحاول خداع الكثيرات لممارسة الجنس معه، ويتحدث بطريقة سوقيّة بحتة عن هؤلاء النساء بطريقة تتعدى حدود المسموح به، وتعتبر جريمة تحرش موصوفة. لكن هوارد يتغير عندما يصبح في علاقة مع بيرناديت، عالمة البيولوجيا، إلا أن "شوفينيته" الذكورية تظهر في جوانب أخرى، منها مطالبته الدائمة بالاهتمام، وعدم مشاركته أبدًا في الأعمال المنزلية.
راج، الشاب الحساس الذي يستحيل غير مُحتَملٍ عندما يشرب الكحول، هو النموذج الوحيد عن تنوّع طاقم المسلسل العرقي، إذ إنه هندي، يتعرّض إلى التنمّر دومًا خلال المسلسل لكونه الأشد "أنوثةً" أو نعومة بين النماذج الأربعة. وراج أيضاً هو الأشد غرابةً عندما يحضر مع النساء. في المواسم الأولى من المسلسل، لا يستطيع راج أبدًا الحديث مع النساء إن لم يتناول مشروبًا كحوليًا، وفي هذه اللحظات تحديدًا، نلاحظ المظاهر العنصرية والمزدرية للنساء التي لا يبديها راج عادةً.
لينارد، الشاب الألطف بين الأربعة، يؤدي دور الشاب "الطبيعي" في المجموعة، لكنه يشارك في السلوكيات ذاتها كما الشخصيات الثلاث الأخرى، لكن بدرجة أخفّ. يمثل لينارد الشاب "المهووس الذكي" الذي لا يقف عند كلمة "لا"، ويبقى مصرًا حتى ينال الفتاة في النهاية، وهذا ما يحصل عندما يبدأ بمواعدة بيني، جارتهم اللطيفة التي تحمل كل صفات "الشقراء التي تأتي إلى لوس أنجليس لتصبح ممثلة شهيرة"؛ منفتحة اجتماعيًا وتساعد الذكور الأربعة في أن يصبحوا أقلّ "غرابة" من دون نتيجة، الصبية يبقون صبية!
لينارد يمثل الفتيل الذي يشعل سيل النكات العنصرية التي يطلقها رفاقه، يكتفي بالتذمر دومًا من أفكارهم المنحرفة، لكنه لا يحاول جديًا أن يغيرها في المسلسل، على العكس تمامًا يمثل تذمّره ذريعة تتلوها نكات أشد عنصرية وتشييئًا للمرأة.
شيلدون، المتعصّب البريء، معظم الشبان الآخرين يظهرون ازدراءً عامًا للسلوكيات الأنثوية، لكن شيلدون هو الشخصية التي تمارس أكثر أشكال كره النساء سوءًا. الفكرة الأساسية خلف شخصية مثل شيلدون هي أنه عبقري وأذكى من أن يفهم ما هي قواعد اللباقة الاجتماعية، أو بالأحرى هو غير مهتم بفهمها أو تطبيقها. في هذا السياق، تكمن الفكاهة المفترضة في رفضه للجميع تقريبًا وإغفال مشاعرهم؛ إلا أنه عندما ينتقص من شأن المرأة - بيني، بيرناديت وآيمي في المسلسل- ويقلل من قيمتها، فإن السبب الرئيس وراء ذلك بالتحديد هو لأنهن نساء، بهذه البساطة.
إذاً، كيف يبقي "بيغ بانغ ثيوري" مشاهديه في حالة تعاطف وتواصل مع مجموعة من الشخصيات التي تتصرف بهذه الطريقة الجلفة؟ يتم هذا الأمر بشكل رئيس بالاعتماد على توليفة من الفكاهة الساخرة الواضحة وأساليب التورية. معظم النكات في المسلسل الكوميدي تتمحور حول منبع الإضحاك التالي: بما أن هؤلاء العباقرة غريبو الأطوار ولا يندرجون ضمن قالب نموذج الذكورة المعتاد الذي نتوقع منه سلوكيات متحيّزة تزدري المرأة، لا شك في أنه سيكون من المضحك للغاية رؤيتهم يحاولون ممارسة هذا الدور المسموم. والمهم ملاحظته هنا أن الغرض من النكتة/ المزحة هو ليس السلوك العدائي للنساء وإنما هو السخرية من مشاهدة شبان لا يتمتعون بعناصر الذكورة التقليدية بشكل كافٍ ليؤدوا دور العنصري الكاره للنساء.
هنا، تحديداً، يمكننا فهم التورية الساخرة، حيث يوجه كاتب المحتوى الاهتمام إلى الكليشيهات والمبالغات المفرطة في صفات شخصياته عوضًا عن كتابة نكات جديدة، وإضافة بهارات على الجوانب التي تعد مثيرة للطرافة المسيئة بغرض الإضحاك، متجنبًا بذلك أي نقدٍ قد يتوجه إليه على كتابة هذه النكات التمييزية المسيئة؛ لأن الكاتب يشير إليها بنفسه. غاية الضحك لم تعد في المفارقة الناجمة عن غرابة أطوار الشخصيات، وإنما بالاعتراف بها كنمط ذكوري ميسوجيني حقًا والمبالغة به كحجة في إيراد المزيد من العنصرية "غير المؤذية".
أين يكمن الإشكال إذن؟ المبالغة هي إحدى الأسس التي تستند إليها الكوميديا، هل تجاوز هذا النقد فعلًا حده في تقييد ما نستطيع الضحك عليه؟
كلنا نحب الضحك، لكن المشكلة في هذا النوع من الكوميديا هي أنها بحد ذاتها لا تتحدى مظاهر التعصب والعنصرية القائمة على أساس العرق والنوع الاجتماعي أو التوجه الجنسي، لا تعيد النظر فيها، على العكس تمامًا، المسلسل يؤكدها لكن بـ "طريقة طريفة".
الاعتراف بالتعصب لا يعد انتقاداً له، خصوصًا عندما تنتهي المزحة -في المثال الذي نتناوله- بطرافة خفيفة تستخف بقضايا اجتماعية هامة، كالتحرش الجنسي.
في حين أننا نعرف أن رسالة "بيغ بانغ ثيوري" ليست بالطبع هي أن "التمييز ضد المرأة هو أمر جيد"، إلا أنه يجب أن نعرف أيضًا أن الآثار المترتبة على مشاهدة هذا الكم من الازدراء ضد المرأة الذي يتناوله المسلسل كموضوع رئيس هو أمر مقلق، إذ إن رسالة المسلسل الكوميدي أقرب إلى كونها "التمييز الجنسي في معظمه غير مؤذٍ"، وخاصة عندما يأتي التمييز من هؤلاء العباقرة غريبي الأطوار الظرفاء.
يفترض Big Bang Theory أن تخفّ حدة التحيز الجنسي عندما يصدر عن نماذج لا تنسجم مع الصورة النمطية الذكورية من خلال تأطيرها على أنها مثيرة للشفقة، وليست بمسألة جلّة وإنما هي "مزحة ولو"، يرافقها هزة في الرأس تستخف بالكلام المفرط في الجدية الذي نكتبه الآن.
في الحقيقة، التحيز الجنسي هو مسألة كبيرة، خصوصًا في الأوساط العلمية، إذ إن أي امرأة من مجتمعات الدراسة العلمية واختصاصات المعلوماتية تستطيع أن تخبرك عن تجربة عملية عن تجربة تحرش أو انتقاص أو ازدراء سيئة تعرضت لها في هذه الأوساط. ومع الأسف، الواقع مليء بنماذج من الرجال الذين يتصرفون تمامًا مثل شخصيات Big Bang Theory، وفي الحقيقة الأمر ليس مضحكًا، ولا ظريفًا.
ليس من الصعب حقًا كتابة شخصيات جديدة ومميزة من نمط "النيرد"، أو العباقرة أصحاب الطباع الغريبة، بحيث لا يكونون متحرشين، وليس فقط في هوليوود وإنما أيضًا في المسلسلات والأفلام العربية التي تقتبس هذا النمط الكوميدي، فعلى سبيل المثال هناك العديد من الشخصيات التي أداها الممثل المصري أحمد حلمي في أفلامه الكوميدية والتي تندرج تحت نمط مشابه، ونخص بالذكر "ميدو" من فيلم "ميدو مشاكل"، نيرد يدرس في معهد التكنولوجيا والإلكترونيات السلكية واللاسلكية يتعامل بطريقة سلبية بالغة مع مختلف أنماط شخصيات النساء فيه، فهو شاب طائش يحاول الإيقاع بالرسامة الموهوبة تارةً، والتي يصورها الفيلم كموهومة ثرية وسطحية، ثم يسخر ميدو على الدوام من زميلته في المعهد (الفتاة التي لا تتبع نمط الأنوثة التقليدي في تعبيرها الجندري)، فضلًا عن دور أخته الذي تتعرض إلى تنمّر دائم منه على الرغم من مساعدتها له عن الدوام، ميدو يسخر من كل النساء وسذاجتهن في الفيلم الذي شوهد بشراهة وكسب شهرة واسعة عربيًا، في الوقت الذي تعاني منه مصر كثيرًا من مسائل التحرش، كذلك الأمر على صعيد المنطقة العربية إجمالًا، ما يعيد طرح "معليش، هي مجرد نكتة"، المقولة المضادة لعمل منظمات حقوق المرأة والنسوية ويقوّضها باستخفاف إن صح التعبير، والأخطر في الأمر هو أن الكوميديا هي حمّال رسائل مرن جدًا لأن يكون تخريبيًا، فضلاً عن شعبية هذه المواد الفيلمية والتلفزيونية.
لا شك في أنه يمكن خلق شخصيات تتمكّن بطريقة ما من أداء أشكال ذكورة مختلفة، غريبة ومضحكة من دون الوقوع غالبًا في التمييز الجنسي الرجعي بشكله هذا (ليونيل من Dear White People) مثالًا. ليس من الصعب إدراك أنه لا يوجد شيء طريف أو عادي عندما يتعلق الأمر بالميسوجينية أو العنصرية ضد النساء، حتى لو كان مصدره شبان ظرفاء يدمنون لعبة فيديو.

المساهمون