إضاءة على "الموسيقى" الداعشية

إضاءة على "الموسيقى" الداعشية

14 ابريل 2019
تُنشد الأغاني جماعةً ما يُضفي عليها الحميّة (Getty)
+ الخط -
واحدٌ من عُتاة تنظيم ما يُعرف بـ"داعش" وأشدّهم تشبّثاً بالولاء لزعيمه أبي بكر البغدادي، هو الشاب السعودي الجنسية محمد الشمّري، الأسير لدى قوّات سورية الديموقراطية، الذي يُشتبه في ضلوعه بعمليات نوعية شنّها التنظيم، وفي التخطيط لأخرى داخل المملكة العربية السعودية وفي العالم، كما يُعتقد بدور بارز له في الحشد والتجنيد والتعبئة إقليمياً ودولياً.

إلا أن كل ما تقدم لم يكن السبب الرئيس في ذيوع صيت الشمّري، وتكاثر الأخبار والشائعات حول مقامه ومآله، ومقرّه ومصيره، والالتباس في أصله واسمه ونسبه، وادّعاء غير جهة وفئة القبض عليه في وسائل الإعلام وعلى منصّات السوشيال ميديا. يبقى مصدر شهرته الأول، سواءٌ بين مقاتلي التنظيم ومناصريه، أو المُتصدّين له ومناوئيه، أنشودة/ شيلة "يا عاصب الرأس وينك"، البدوية.

أن يرتبط بالغناء اسم واحدٍ من أتباع سلفيةٍ "جهادية"، عدمية وطهرانية كـ داعش، حرّمت حتى التبغ، قد يشي بالغرابة في بادئ الأمر، بيد أن توظيف الإنشاد في التعبئة والدعاية ليس بالأمر الطارئ على الإسلام السياسي عبر تاريخه الحديث. توظيفٌ ميّزه هامشٌ عريض فضفاض من المرونة الفقهية والبراغماتية، ابتغاءً لحيازة إحدى أقوى وسائل التأثير بالقلوب والألباب، ألا وهي الأغنية.

مُقتضى تلك البراغماتية إزاء الغناء الديني، يتأتّى من وضعية الصراع الذي تجد "الجهادية" به نفسها في مواجهة المؤسسات من "قوى الشر"، ابتداءً بالنظام الحاكم وانتهاءً بالنظام العالمي؛ الأمر الذي استدعى منها الأخذ بكل أسباب القوة المتاحة. في هذا السياق، حلّلت الأناشيد فتاوى شيوخ السلفيين، كـ ابن باز والألباني والجبرين والعثيمين، ما دامت تسهم في الحشد التعبوي والمعنوي.

من جهة، التزمت أناشيد الداعشية وغيرها بالمستثنى من الفتوى والمعروف بـ "المعازف"؛ أي إدخال آلات العزف والنقر، موسيقيةً كانت أو إيقاعية، متمايزة بذلك عن إرث إسلامي آخر مديد وعريق، ألا وهو الموسيقى والغناء الصوفيان. من جهة أخرى، طرأت عليها الكثير من سمات العصرنة والتحديث شكلاً ومضموناً، وتطوّر وسائل التسجيل من ناحية تقنيّات المزج والإنتاج.

عدا ما شذّ وندر، تُنشد تلك الأغاني جماعةً، يُضفي عليها ذلك الحميّة والحماسة لكونها واحدة من أدوات الإعداد الحربي، بيد أن الغناء جماعةً قد ميّز في الأصل مُعظم ألوان الإنشاد الديني لدى أتباع مختلف العقائد والمذاهب؛ فالهوية الدينية، بخلاف الإيمانية، لا تخص الفرد وحده، وإنما تتعدّاه إلى أمّة وجماعة، من تلك الرؤية انبثقت كل جوقات الترتيل الدينية وحلقات الذكر والمدائح النبوية.

الأصوات بطبيعة الحال أصوات رجال، وتلك أيضاً سمة عامة لمعظم أشكال الغناء الديني، وخصوصاً المؤسساتي القديم، الجديد هو الفصل بين الطبقات، حيث يتبادل الرجال الأدوار الصوتية بين واطئة منخفضة وعالية مرتفعة، خلافاً لما جرى عليه مُجمل العادة في الماضي على أن تتحد جميع الأصوات في نفس الطبقة، أتى هذا التجديد بتجديد آخر مثير وغير متوقع ألا وهو الهرمنة.

دخلت الهرمنة على النشيد السلفي المعاصر من بابين؛ الأول تعدد الأصوات - أي البوليفوني، وإن بشكل بدائي غالباً يقوم إجمالاً على فواصل رباعية وخماسية، وفي بعض الأحيان قد يرقى إلى معالجات هارمونية أكثر تعقيداً. الباب الثاني، إيجاد بديل إيقاعي عن غياب آلات القرع والنقر كالدفّ والطبل، تمدّ النشيد بالحيوية والسخونة عن طريق تكرير كلمات أو جملٍ قصيرة وتوتيرها أدائياً.

على هذا المنحى، أخذ أسلوب الإنشاد يقترب من شكل الجوقة المنفردة Acapella، لا لناحية تعدد الأصوات فقط، وإنما تعدّد الأدوار أيضاً؛ فهناك أصواتٌ تُنشد مقاطع الغناء الرئيسة، فيما أصوات ترتفع أو تنخفض ترسم لها الخلفيات الهارمونية، وأصوات أخرى تكرر جملاً قصيرة أو كلمات مفردة، تؤدي إيقاعاً تعبيرياً ينظّم للنشيد نبضه ويدبّ فيه الحماسة الشعورية.

في سبيل يُسر العمل بالهرمنة وتعدد الأصوات، لُحّنت مُعظم الأناشيد على مقام الكرد والنهاوند، وابتعدت عن البُعيدات الشرقية العصيّة على المعالجات الهارمونية السلسة والبسيطة، من منظور ثقافي عكس ذلك المنحى جماهير تلك الأناشيد الجديدة المتنوعة والعابرة للحدود والقوميات؛ فبدا النشيد "الجهادي" معولماً لا يتجه نحو أذن مشرقية الذائقة والثقافة، وإنما عالمية، مستغرِبة ومتنوعة.

في حالات معيّنة، جرى اختبار الحدود الشرعية والفقهية التي تقيّد توسيع الأناشيد "الجهادية" وتؤكد اقتصارها على الحناجر واجتنابها للـ "المعازف"، فأُدخل على بيئة النشيد الصوتية المؤثرات المصنّعة رقمياً، كل ذلك في سبيل زيادة المقدرة على التحريض والاستثارة، فصار الإنشاد يحاكي موسيقى ألعاب الفيديو القتالية، ما يزيد من احتمال استمالته الحسّية للصبية والمراهقين.

وكما في ميادين أخرى عديدة، ساعدت الإنتاجَ سهولةُ الحيازة على الوسائل التكنولوجية، وعدم اشتراط جودة التسجيل النسبية التعاقدَ مع استوديو يُشرف عليه طاقم من مهندسي صوت وتقنيين، فيكفي اليوم أن تملك حاسوباً ومجموعة ميكروفونات بسيطة، لكي تُسجل مادة بجودة مقبولة، في غرفة صغيرة في شقة، أو قبو مُنعزل، بعيداً عن الأنظار والشبهات، ومن ثم تحمّله لسائر كوكب الأرض.

ثم إن القيمة الدعائية لم تعد لتقتصر على النشيد "الجهادي" بعينه، بل إن الإنشاد بات لا يعدو سوى كونه عنصراً مكوّناً ورافداً للمقاطع وأفلام الفيديو القصيرة، التي تُعدّها وتُنتجها التنظيمات المسلحة على أنواعها واختلاف مشاربها، بغية التجنيد والتعبئة والدعاية. صار للنشيد اليوم صورة ومرأى، وصار للصورة نشيدٌ ومغنى، كلٌ يدخل ضمن منظومة بروباغندا نافذة ومنخفضة التكلفة.

من الإطلالة على الإنشاد وكيف قاربته جماعات السلفية "الجهادية"، ثم تبنّته ووظفته ضمن عتاد التجنيد والدعاية، يبرز تقدم هوية تلك الجماعات السياسية على الهوية الدينية، فهي تنظيمات سياسية تهدف إلى حيازة السلطة واحتكار العنف، وفي حالة "داعش" تأسيس كيان سياسي على جغرافيا توسعيّة، وفي سبيل تلك الغايات والمآرب تُحرّم أشياء وتحلل أشياء بما فيها التلحين والغناء.

المساهمون