زمن المسلسلات: حلقات سينمائية ممتدّة لفصول طويلة

زمن المسلسلات: حلقات سينمائية ممتدّة لفصول طويلة

04 أكتوبر 2019
يصدر هذا الشهر فيلم استكمالاً لمسلسل "بريكنغ باد" (Imdb)
+ الخط -
حين انتشر جهاز التلفاز في خمسينيات القرن الماضي، وبدأ إنتاج المسلسلات التلفزيونية كنتيجة منطقية للاختراع الجديد، كانت هناك فوارق واضحة وضخمة للغاية بين تلك المسلسلات من ناحية، والسينما والأفلام من ناحيةٍ أخرى؛ فوارق تقنية في المقام الأول، تتعلق بالكاميرات المستخدمة في الأفلام، في مقابل المستخدم في التلفزيون، والفارق في الصورة بينهما، كذلك في حجم وأبعاد الصورة التلفزيونية المربعة، كي تكون مناسبة للجهاز الذي تُنقل من خلاله، في مقابل الأفلام السينمائية التي تعرض عبر وسيط مختلف، وبالتالي صورة مستطيلة بأبعاد وجماليات مختلفة، وغيرها من الفوارق التقنية الدقيقة.

إلى جانب ذلك، هناك الفوارق الفنية، سواء في الفنانين أنفسهم، وميل الأكثر موهبة منهم للسينما بشكل تلقائي كفن أكثر رقياً، أو في نوعية المواضيع التي يشترط فيها المحافظة في التلفزيون، بينما يكون السياق مفتوحاً بشكل لا يقارن في الأفلام، وصولاً حتى إلى أماكن التصوير (التي تميل للداخلي والاستوديوهات والديكورات البسيطة في التلفزيون)، وكلفة الإنتاج المتواضعة في المسلسلات في مقابل الضخامة السينمائية.
كان هذا هو الوضع منذ سبعين عاماً، وكان يتغير بشكل طفيف ويزيد من قيمة التلفزيون بفضل وجود مسلسلات طموحة وضخمة وناجحة وتستغل ضخامة المدة الزمنية المتاحة في مسلسل واحد لسرد قصص قد لا تصلح للسينما بنفس القدر، ولكن بالتأكيد ظلت المسافة موجودة، والفارق (التقني والفني) واضحاً لصالح السينما.
في الـ 15 عاماً الأخيرة تحديداً، تغير كل هذا؛ تقلّص الفارق تماماً بين السينما والتلفزيون، وذلك لعدة أسباب.
أولها، يمكن إرجاعه أيضاً إلى الجانب التقني، وهو أن حجم وشكل التلفزيونات (كاختراع ووسيط عرض) تغيرا كثيراً، وصارا مقاربين لشكل دور العرض السينمائية من ناحية الأبعاد، وفي نفس الوقت زادت كفاءة وجودة الكاميرات الديجتال وأصبحت هي المستخدمة في تصوير الأفلام لدرجة اندثار الخام تقريباً، وبالتالي فإن الوسيطين (السينما والتلفزيون) ذهبا لاستخدام نفس الكاميرات، ولم يعد الفارق التقني في شكل وجودة الصورة موجوداً من الأصل.
السبب الثاني هو اتساع سوق التلفزيون والمسلسلات حول العالم، ما زاد من حجم الإنفاق عليها والاهتمام بها. صار من الممكن إنتاج مسلسل ملحمي بضخامة Game of Thrones بمتوسط كلفة الحلقة الواحدة منه 10 ملايين دولار، أو إنتاج مسلسل آخر مثل Breaking Bad بنزعة سينمائية، بل والتصوير بخام 35 مم؛ لأنها الأنسب لما يريده صانع المسلسل، ومع نجاح هذين المسلسلين تحديداً، ومثلهما مسلسلات أخرى في نفس الفترة، بدأ يتغير المنظور العام للتلفزيون عموماً؛ كأن المسلسلات صارت فناً أكثر رقياً من ذي قبل.
نتيجة لذلك أيضاً، وبالتزامن مع بداية وانتشار شبكات المشاهدة المباشرة عبر الإنترنت، وعلى رأسها "نتفليكس"، وشكل العرض المختلف الذي يجعل حلقات المسلسل كلها تعرض دفعة واحدة (كأنه فيلم طويل من عشر ساعات)، بدلاً من الانتظار أسبوعاً وراء أسبوع، أو - في المقابل - طرح أفلامها على للعرض التلفزيوني مباشرة من دون طرحها في دور العرض، كل هذا جعل شكل الاستقبال والمشاهدة واحداً، وكذلك شجّع مخرجي السينما، وبعضهم من أهم مخرجيها خلال العقدين الأخيرين، لصناعة مسلسلات تلفزيونية بدرجة عالية جداً من الجودة و"اللغة السينمائية"؛ مثل ديفيد فينشر ووقوفه وراء مشروعي House of Cards ثم Mindhunter في وقت لم يخرج فيه أي فيلم منذ 2014، أو إنتاج جويل وإيثان كوين لمسلسل Fargo، أو مسلسلات مثل True Detective أو Narcos أو The Haunting of Hill House، وكلها وقف وراءها مخرجون قادمون من السينما، واستيعاب التلفزيون لمسلسل بتعقيد Westworld الذي يقف وراءه جوناثان نولان، أو دموية Peaky Blinders لستيڤن نايت؛ كل تلك الأعمال جعلت لا فارق ملموساً الآن في الحقيقة (باستثناء عدد ساعات العرض) بين التلفزيون والسينما وما يمكن تقديمه أو استيعابه في كل منهما.
تلك المساحة الذائبة بين الوسيطين تزداد الآن سيولة وتداخلاً مع إكمال بعض الأفلام خط أحداثها داخل مسلسلات، أو العكس؛ إذ تحوّل خط أحداث من مسلسل إلى فيلم. حدث ذلك مع إعلان شركة "مارفل" قبل وقت قليل أعمال مرحلتها الرابعة (بعد ثلاث مراحل و23 فيلماً في الـ11 عاماً السابقين)، وكان من ضمنها عدد من المسلسلات التي تقدم فيها شخصيات من عالمها السينمائي؛ مثل مسلسل شخصية Loki شقيق Thor، أو The Falcon and the Winter Soldier القادمين من عالم "كابتن أميركا"، أو WandaVision موطن Black Panther، تلك المسلسلات تُكمل خط أحداث سينمائية في خط متصل وعالم واحد!
نفس الأمر حدث بالعكس مع فيلم El Camino: A Breaking Bad Movie الذي أنتجته شبكة "نتفليكس" وسيعرض على شاشتها يوم 11 من الشهر الحالي، وتكمل فيه خط الأحداث بعد نهاية مسلسل Breaking Bad عام 2013 من خلال تتبع مصير شخصية جيسي بينكمان، البطل الثاني للمسلسل.
أمام كل هذا التداخل، التقني والفني ووسيط وشكل العرض، وصولاً إلى خطوط أحداث تتقاطع وتكتمل الآن من التلفزيون إلى السينما، هل هناك فارق حقيقي بينهما؟ أم صارا فناً مرئياً واحداً من دون فوارق؟ وهل يمكن أن يصل بنا هذا التداخل في لحظة إلى اندثار قاعات السينما العادية بالشكل الذي نعرفه اليوم وتحولها إلى إرث من الماضي؟ وتحول العرض الرئيسي لـ"الأعمال المرئية" إلى تلفزيونات عملاقة داخل البيوت؟

المساهمون