شارات رمضان في الثمانينيات: حقبة نجت من التسويق التجاري

شارات رمضان في الثمانينيات: حقبة نجت من التسويق التجاري

06 مايو 2019
الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم (فيسبوك)
+ الخط -
وفياً لما سبقه، دأب شهر رمضان على توزيع وجبات الحنين، في عادة لا يزاحمه عليها غيره من أشهر السنة. الحنين الموزع على جهات كثيرة، تحرض عليه نكهات الرداءة والتدني، بعد أن غلبت على جميع ما ينتجه الحاضر، فأفسدت الذوق العام. إحدى هذه الجهات، شارات الدراما التلفزيونية التي قُدمت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، لتدلل على أن أعمال تلك الحقبة التي باشرها الإتقان، وسوتها الموهبة وخلدتها البراعة، بخلاف ما تبعثره الدراما اليوم في عجل على القنوات التلفزيونية والفضائيات، لتُنسى على عجل أيضاً.

أقامت تلك الحقبة لمن شهدها سياجاً محكماً حول شارات أو تترات الدراما، يفصلها عن أغاني السوق ذات الطابع التجاري. وساعدها في ذلك، ما جبل عليه المسلسل الدرامي من ثقل، فرضته الفكرة أو الرسالة التي بُعث إلى الناس لتبليغها. لهذا السبب، دارت الشارات في فلك عدد محدود من الشعراء الغنائيين والملحنين والمطربين المجيدين، أمثال عمار الشريعي وميشيل المصري وياسر عبد الرحمن في التلحين. وعبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب في كتابة الكلمات، ومحمد الحلو وعلي الحجار وهدى عمار وحنان ماضي في الغناء.

"ليالي الحلمية"
قدم الجزء الأول من مسلسل "ليالي الحلمية" سنة 1987، ثم تتالت أجزاءه، إذْ عرض الجزء الثاني سنة 1989، والجزء الثالث سنة 1990، والجزء الرابع سنة 1992، أما الجزء الخامس فعرض سنة 1996. الشارة من كلمات سيد حجاب وغناء محمد الحلو، أما الموسيقى التصويرية فهي لميشيل المصري الذي رحل عن عالمنا العام الماضي. وقد لا يعرف كثيرون، أن المصري بجانب عمله في بداية حياته عازفاً في فرقة أم كلثوم، انضم أيضاً لفرقة الرحابنة، فكان العازف الأول وراء فيروز. وعمل فترة في تدريس الموسيقى بالكويت. وبعد عودته إلى مصر، اتجه إلى التأليف الموسيقي، إذْ بلغت أعماله للدراما التلفزيونية سبعة وعشرين عملاً، إلى جانب الموسيقى التصويرية لخمسة عشر فيلماً روائياً. أحاط المصري أعماله بحرفية الصانع الذي جمع أطراف صنعته عزفاً وتدريساً وتأليفًا، بهالة من الانسيابية والسلاسة، تماهت مع إبداع صانع آخر هو الشاعر سيد حجاب، بعد أن صاغ قصة أسامة أنور عكاشة الممتدة عبر ثماني عشرة حلقة في أبيات معدودات، اعتمد فيها التكثيف، لتأتي مقاطعه الشعرية القصيرة مشبعة بحكمة العجائز، وملهمة للمؤلف الموسيقي لأن يبدع ما وسعته موهبته ومهاراته اللحنية.




"المال والبنون"
خصّه الوجدان المصري بمكانة لم يشاركه فيها أي عمل درامي آخر. ودون الاهتمام بذكر الأسباب، لكن بالتأكيد لن يعترض أحد إذا زعمنا أن تتر المسلسل وموسيقاه التصويرية في المقدمة، هي من تلك الأسباب التي أدت إلى نجاح المسلسل. عُرض جزؤه الأول سنة 1992، ثم تلاه الثاني سنة 1995. الشارة من كلمات سيد حجاب، وغناء علي الحجار. أما الموسيقى التصويرية فكانت لياسر عبد الرحمن الذي صورها في قالب "الطقطوقة". في بداية الشارة، تخطف السمع طرقات تنبيهية، وقبل أن يلتفت يمنة ويسرة، يفاجئه الكورال بالغناء دون تمهيد موسيقي، ليؤدي الكورال الشطر الأول من البيتين المكونين للمذهب، فيجيبه علي الحجار بالشطر الثاني. اللحن الذي راوح بين البياتي والحجاز، أفسح المجال لإمكانات الحجار الصوتية أن تنهمر على المستمع، ليرواح المطرب هو الآخر في براعة بين الطبقات العالية والمنخفضة. تلاوين الحجار الصوتية الزاهية، اعتبرها كاتب الكلمات سيد حجاب، الأجمل في ضرباتها على أسماع الجمهور منذ عبد الوهاب "في عزه". ولا ننسى ما أضفته حنان ماضي على تتر النهاية من عذوبة ورقة، أحالت كلمات الشارة إلى نسمات تفاؤل، كانت ترطب النفوس بعد جرعة من الدراما اللاهبة. ومن مقام "الكرد"، كانت تهب تلك النسمة العليلة على المشاهدين، ليجاوبها على الحجار من "البياتي".



"هوانم جاردن سيتي"
الحنين هو العنوان الرئيسي لدراما "هوانم جاردن سيتي". عُرض الجزء الأول منه سنة 1997، تلاه الثاني 1998. شارة المسلسل من كلمات سيد حجاب، وغناء هدى عمار، أما الموسيقى فكانت لراجح داود الذي أمسك طرف الخيط من نغمة نشيد "بلادي.. بلادي" المصاحب لصوت حسين فهمي في مقدمة التتر. فنسج راجح من مقام النشيد "العجم" مقطوعته الموسيقية الرقراقة التي اختارت صوت هدى عمار لتستعرض عبره نغماتها وخطوطها اللحنية الهادئة. حرض المزيج الإبداعي عالي المقام معنى الحنين، كي يتسلط بلا رحمة على الجمهور. وهذا ما جعل استعادة أغنيتي الشارة يشق على نفس البعض، إذْ إنَّ فيها حمولة المعنى تثقل الروح.
السياج الذي أقامته فترة الثمانينيات والتسعينيات حول الشارات تداعى الآن، فبينما كانت، شعراً وغناءً وتلحيناً، حكراً على نخبة محدودة بالأمس القريب، أصبحت اليوم مشاعاً لكل أحد. ولأن مسلسلات هذه الحقبة صارت تطبخ على عجل، فإنها بالتأكيد ستخسر طبيعتها كبوابة يعبر منها العمل الدرامي إلى الخلود، بعد أن صارت فرجة ضيقة لا تسمح بعبور شيء.




المساهمون