تاريخ سورية الفنّي: سرد من الماضي احتجاجاً على الحاضر

تاريخ سورية الفنّي: سرد من الماضي احتجاجاً على الحاضر

24 مايو 2020
محمد ملص مخرج "أحلام المدينة" (غاريت كاتيرمول/ Getty)
+ الخط -
موسم درامي يغلق بابه، ويعدنا بما هو مربك أكثر، فلا شخصيات حفرت في الذاكرة أو مسلسلٌ تناقلت جمله الشارع. وحيث الاستثناءات قليلة، يظهر النتاج الدرامي كوجبة سريعة انتهى مفعولها بعد التهامها، كما وصف حال الدراما السورية اليوم الفنان عابد فهد بأنها "فاست فود دراما"، في حين لا يمكن تجاهل الشرط الترفيهي الذي تتطلبه دراما اليوم، وهو ما يفسح المجال أمام المنصات الرقمية للدخول من بوابة الترفيه، وفرض سياق معين للأعمال الدرامية، يجردها من محليتها المغرقة، ويدخلها في نطاق الاستهلاك الذي بات يسيطر حتى على الصناعة الفنية. وبعد أن كان تصوير الواقع بأخذ المادة الأولية أو الخام من الشعب وإعادة تدويرها وصناعتها بقوالب فنية معينة وإعادتها للناس، هو جوهر الدراما والهدف الأول من وجودها في الحياة، قسّم اليونانيون التمثيل إلى تراجيديا وكوميديا، لكي تعيد إنتاج الشعب بطريقة تصوّر حياتهم وتضعها فوق الطاولة، وتحفظ ذاكرة الشعوب من خلال الفن. ولكن كما يكتب على بعض الفيديوهات المخيفة "هذا الفيديو ليس لأصحاب القلوب الضعيفة"، فيمكن القول إن هناك تياراً لا يرضى بالمنطق السائد في الدراما اليوم. كثيرة هي المرات التي سمعنا فيها قصة من أحدهم وتأثرنا بها أو حاولنا تقديم الحلول والمساعدة أو ربما ضحكنا، فتخيل أن تكون هذه القصة تتحدث عنك وهذا المحتوى يريك نفسك، ترى كيف سيكون الشعور.

المسرح... أبو الفنون وشقيق الواقع
دعونا نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، لنبدأ مع المسرح "أبو الفنون" الذي فشل في البداية بنقل الواقع، وكان هدفه الترفيه فقط، حتى أتى فريدريتش هيبل وأضاف إليه صفة جديدة وهي "شقيق الواقع". إذْ فشل الكتّاب قبله في كتابة مسرحيات واقعية ناجحة. وعلى مستوى العالم العربي فكان نجيب الريحاني أوّل من صنع مسرحاً واقعياً، وفي تاريخ سورية كان رائد الواقعية والشعب هو الكاتب محمد الماغوط الذي نقل الواقع كما هو من خلال مسرحيات عديدة، مثل "كاسك يا وطن" و"ضيعة تشرين" التي جعل من شخوصها أبطالاً من حارات الشام وليس من خياله أو من كتب التاريخ. وكان المسرح في سورية قبله يعتمد على مؤلفات أجنبية وأدبيات شكسبير.


الشاشة الذهبية
لا نستطيع القول إن سورية نجحت في تقديم صناعة سينمائية حقيقية خلال السنوات الماضية، فبالعودة لمرحلة الثمانينيات والتسعينيات لم يبرز سوى اسمين استطاعا صناعة سينما واقعية تعبّر عن الحياة في تلك المرحلة. الأول، هو عبد اللطيف عبد الحميد من خلال عدة أفلام مثل "رسائل شفهية" في عام 1991 الذي صوّر الحياة البسيطة في الساحل السوري من خلال اللهجة وموقع التصوير وحتى القصص والملابس وغيرها، ولليوم يعتبر من أنجح الأفلام السورية الواقعية. والثاني، هو المخرج محمد ملص، الذي استطاع بأعمال قليلة نقل السينما السورية إلى موقع عالٍ من الواقعية والحرفية، مثل "أحلام المدينة" عام 1984 الذي نقل الصورة الحقيقة لدمشق آنذاك، وكأنه دفتر يوميات. طبعاً هنالك أسماء أخرى، مثل ريمون بطرس الذي صنع أفلاماً لا تنسى مثل "حسيبة".

ومن الجيل الآخر نجد المخرج باسل الخطيب، فإلى جانب أعماله التلفزيونية، صنع عدداً من الأعمال السينمائية كفيلم "دمشق حلب". وكذلك المخرج محمد عبد العزيز في تجارب عدة، مثل فيلم "دمشق مع حبي". ولا يوجد نجوم سينما في سورية، فأغلب نجوم الدراما اليوم يوجد في أرشيفهم فيلمٌ أو فيلمان فقط. وفي السابق، كانت هناك محاولات لصناعة نجوم سينما، مثل إغراء وأديب قدورة وسمر سامي. ولكن منهم من انتقل إلى الشاشة الفضية ومنهم من وضع في الثلاجة!

الشاشة الفضية
تجلّت الدراما الواقعية التلفزيونية السورية منذ مطلع التسعينيات عبر أعمال استطاعت في فترة وجيزة أن تدخل إلى كل بيت عربي وتحفر في ذاكرة كل الشعوب العربية. ودمشق التي حاولت جمع العرب في بوتقة وطنية ربما نجحت في جمعهم عبر بوتقة فنية أثرت فينا جميعاً من خلال أعمال متنوعة غيّرت الأسطوانة، أو كما يقال بالشامي "الكوانة"، سواءً بالسيناريو أو الإخراج وحتى الإنتاج الذي تحوّل إلى الخاص ودخل سبق المنافسة. وكان هذا التجسيد الواقعي عبر شخصيات استطاعت أن تجعل كل سوري يعتقد أنه سيصادف البطل إمّا في سوق الحميدية أو تحت جسر الرئيس أو حتى في مؤسسة رسمية.
وتقسّمت الدراما إلى بيئة شامية صوّرت الواقع السوري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عبر شخصيات حفرت في ذاكرتنا كنصار ابن عريبي في مسلسل "الخوالي" الذي اعتقد كثير من العرب حينها أنه شخصية تاريخية كانت موجودة حقاً. علماً أنها تحمل صفات "الشامي" ولكن لا يوجد في التاريخ من هو بهذا الاسم، والاعتقاد هنا يأتي من الواقعية الشديدة في الطرح وقدرة الكاتب مع الممثل على صناعة شخصية من ورق إلى إنسان من لحم ودم. بالإضافة لبراعة الدراما السورية في صناعة أعمال تاريخية، متفوقةً حتّى على المصريين الذين صوّروا التاريخي في الاستوديو، بينما في سورية كانت تصّور في العديد من المدن والمناطق وفي المواقع الحقيقية كمسلسل "صقر قريش" الذي صوّر بتسع مدن سورية وعربية. وحتى الدراما الاجتماعية كـ"الفصول الأربعة" والكوميدية كـ"عيلة خمس نجوم"، أجاد صنّاعها في ترك بصمة حقيقية تجعل اليوم كل سوري عندما يمر من شارع العفيف في دمشق، ويجد البيت الذي صوّر فيه الفصول الأربعة، ينفخ الروح في داخل ذاكرته التلفزيونية.

دلالات

المساهمون