المُشاهدة المنزلية: مُتنفّس جديد

المُشاهدة المنزلية: مُتنفّس جديد

13 مايو 2020
رائد أنضوني في "اصطياد أشباح": مُشاهدات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في زمن "كورونا"، توفِّر التقنيات الحديثة تواصلاً متنوّع الأشكال مع السينما. منصّات ومواقع تعرض أفلاماً قديمة لمخرجين عديدين، بعضهم يتكفّل بعرضها على موقع خاصٍّ به. "فيسبوك" و"إنستغرام" يُتيحان نقاشاتٍ مع سينمائيين، يجريها نقّادٌ وسينمائيون. هذا نمطٌ يواجه فراغ الصالات، محاولاً إيجاد مساحة "آمنة" بين مُشاهِد ونتاج وناقدٍ ومخرج. هذا أسلوب حياةٍ، في محيطٍ غارقٍ في البؤس والفقر والعنف والخراب والموت، وبعض هذا متأتٍ من سياساتٍ ومصالح، وليس فقط من الوباء.

ابتكار وسائل عيشٍ في لحظة كهذه أساسيّ. أفرادٌ يبتكرون، ومؤسّسات تحاول إيجاد لغة جديدة، وإنْ تكن مؤقّتة، بين مُشاهِد وشاشة. لقاءات افتراضية، يُديرها نقّاد وصحافيون سينمائيون، مطلوبة. الحوار جزء من إعادة المُشاهدة والتلقّي، بحثاً عن تفاصيل وهوامش ومتنٍ، في أفلامٍ وآليات إنتاجٍ وأساليب مُشاهدة. تجربة الزميلين الفلسطينية عُلا الشيخ والمصري أحمد شوقي توثيقٌ للحظة، وانفتاحٌ على أفقٍ آخر للحوار. توثيقٌ يقول شيئاً عن مواجهة وباء وموت، من خلال نقاشٍ حول فيلم وسينما وثقافة، وتساؤلات عن قضايا وآليات اشتغال، وعن مُقبلٍ من الأيام. وانفتاح يُضيف سجاليّاً، وإنْ تكن الإضافة متواضعة، فالوقت كفيلٌ بصقلها وبلورة مسارها الثقافي والفكري والتأمّلي.
العزلة المنزلية فرصة لمزيدٍ من التفكير والتأمّل. الوقت متاحٌ أكثر من السابق، والأسئلة كثيرة وبعضها غير محسوم. هذا جميل ومطلوب، فالحسم قاتلٌ للثقافة والفكر والفن والنقاش. القلق من الوباء وتأثيراته المختلفة طبيعي، لكنّه دافعٌ إضافيّ إلى جعل العزلة المنزلية، وإنْ بجانبٍ منها، مساحة ذاتية لإعمال العقل والتحليل، ولطرح التساؤلات. ما يفعله الشيخ وشوقي وغيرهما يُفترض به أنْ يندرج في هذا السياق. النقاش يُخفِّف من ثقل الوحدة والعزلة والقلق، كقدرة التأمّل على تخفيف بعض هذا الثقل أيضاً.
المُشاهدة حاضرة، وإنْ يكن إنتاج معظم الأفلام قديمٌ. هذا تمرينٌ على الموازنة بين مُشاهدة هادئة وتفكير يذهب بصاحبه إلى أمكنة أخرى داخل الفيلم وخارجه. النقاد والصحافيون السينمائيون مُطالبون بمشاهدة واحدة للكتابة والتعليق وإجراء حوارات، والمشاهدات الإضافية لاحقة على اللحظة الأولى لإطلاق الجديد. هذا ليس تسرّعاً، بل ضرورات مهنة. المهرجانات تفرض اشتغالاً كهذا لوفرة الأفلام "الطازجة". لذا، يختار زملاء أحياناً مُشاهدة كلاسيكيات معروضة في هذه الدورة أو تلك، لاستعادة هادئة لمعنى الشغف والاستسلام لمشيئة الشاشة الكبيرة وسحر ما تقدّمه، من دون قلق المهنة ومتطلّباتها. العزلة المنزلية الراهنة تبدو كأنّها تؤدّي دوراً كهذا، أو ما يُشبهه، وإنْ تختفي الكلاسيكيات والشاشات الكبيرة، فهي (العزلة) تُتيح مشاهداتٍ جديدة لأفلامٍ تستحقّ أكثر من مُشاهدة، وأكثر من تأمّل، وأكثر من تواصل.

مُشكلة منصّات ومواقع كامنةٌ في تحديد يومٍ واحدٍ فقط لعرض فيلمٍ واحد. هذا يُلغي كلّ مُشاهدة هادئة. التحديد منافٍ لأصول المُشاهدة، فكثيرون ربما يعجزون عنها لضيق الوقت. فهل يظنّ محدّدو موعد واحد للمُشاهدة أنّ العزلة المنزلية تسمح بذلك؟ هؤلاء ينسون أنّ للمزاج الفردي، كما للانشغالات المختلفة، دوراً أساسياً في اختيار وقتٍ ملائمٍ للمُشاهدة، تسمح به إتاحة وقتٍ أطول (أسبوعين مثلاً، كما يحصل في مواقع ومنصّات عدّة).
التحديد نادرٌ، فالغالب يسمح بتواصلٍ أهدأ وأعمق، لأكثر من مرّة إذا رغب المُشاهد في ذلك. لذا، تُصبح العزلة المنزلية متنفّساً سينمائياً جديداً، في حصار الانهيارات والتبدّلات.

دلالات

المساهمون