جا جانكه: "على الصينيين الاستفادة من المحنة لمراجعة الذات"

جا جانكه: "على الصينيين الاستفادة من المحنة للتأمّل ومراجعة الذات"

03 ابريل 2020
جانكه: أنجز فيلماً ولا أفكّر بمُشاهِد معيّن (ماتياس نارِيَاك/Getty)
+ الخط -

في فيلمه الوثائقي الأحدث، "السباحة إلى أنْ يصير لون البحر أزرق"، المُشارك في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" في برنامج "عروض خاصة"، يعود الصيني جا جانكه إلى جذوره، أي إلى مسقط رأسه في إقليم شانشي، حيث ستكون في انتظاره حكايات من الماضي، يوثّقها المخرج الكبير بكاميراته الحنونة، التي تعانق الشخصيات وتحثّهم على البوح.

في الآتي، حوار خاص مع جانكه أُجري في برلين، لحظة تقاطع الحدث السينمائي البارز مع المخاوف من تفشّي وباء "كورونا" في العالم.

ما الحالة التي تعيشونها اليوم في الصين، في ظلّ تفشي وباء "كورونا"؟ أتشعر بالخوف؟ هل يُمكن أنْ يُلهمك الوباء فيلماً في المستقبل؟
إنّها المرة الثانية التي يحدث فيها شيء كهذا في الصين. عام 2003، انتشر وباء "سارس". أعتقد أن على الصينيين الاستفادة من لحظة المحنة هذه، للتأمّل ومُراجعة الذات. مناسبة كهذه يجب أنْ تُظهر إلى العلن أصواتاً مدفونة. بالنسبة إليّ، ربما لن أصوّر في المستقبل فيلماً يتحدّث عن الوباء بصورة مباشرة، لكنّي ربما أهتمّ بما يتركه من آثار في نَفْس المواطن الصيني. الإفادة من كوارث الماضي لعدم تكرارها في المستقبل. هذه تيمة ستجدها في فيلمي المقبل.

ما الذي شجّعك على تأسيس مهرجان أدبي في مسقط رأسك فنيانغ؟ أهذا دافع إلى إنجاز "السباحة إلى أنْ يصير لون البحر أزرق"؟
في ما يتعلق بالمهرجان، لستُ أنا من أسّسه، بل فعاليات المدينة. صحيح أنه يجري في قرية غالبية سكّانها من عائلة "جا"، لكن لا علاقة لي به، رغم أنّ اسم عائلتي هو "جا". السبب الذي جعلني أجد المشروع مثيراً، هو أنّ هؤلاء الكتّاب الذين تراهم في الفيلم ترعرعوا في بيئة ريفية، وشخصيات رواياتهم من هذه البيئة. المهرجان الأدبي، الذي يُقام منذ عام 2019، يجمع هؤلاء الكتّاب جميعهم، الذين ذاع صيتهم من خلال اشتغالهم على شخصيات تنتمي إلى الريف العميق، تحديداً في قرية عائلة "جا". حتّى لو كانت مساهمتي في هذا المهرجان محدودة، إلا أنّي وجدتُ هنا مناسبة لالتقاط هذه التجارب الأدبية المهمة، ولردّ الاعتبار إلى الشخصيات المنبثقة من عمق الريف الصيني. أعتقد أنّ الحديث عن التجربة الريفية وتأثيراتها الاجتماعية غائب حالياً في الخطاب العام للمجتمع الصيني. في العقود الماضية، عشنا تروما الانتقال الصعب من الريف إلى المدينة. أعداد كبيرة من الناس، من الأجيال الجديدة، لا تعرف كيف كانت الصين في ما مضى، وكيف كان المجتمع الريفي، وكيف كانت الثقافة الريفية.

بعد أفلام روائية طويلة عديدة، تعود إلى الوثائقي. كيف تصف هذه التجربة؟
رغم أنّي شخصياً أميل جداً إلى بناء شخصيات وخلق حبكة روائية لالتقاط واقع الصين، لكنّ هذا لا يصل كلّياً إلى الناس، لأنه يبقى في إطار عالم الخيال بالنسبة إليهم، حتّى لو سعيتُ إلى وضعه في سياق تاريخي. لهذا السبب، مهمّ جداً في بعض الأحيان اللجوء إلى الوثائقي لتناول الواقع بشكل "موضوعي"، ولإفساح المجال لشهود عيان التاريخ للتعبير عن أفكارهم. من خلال نقل ذكرياتهم الشخصية، وددتُ معرفة ماذا عاشوا في تلك الحقبة الزمنية.



هناك سببٌ آخر يجعلني أعود إلى الوثائقي، بين فترة وأخرى. فبالاضافة إلى المتعة التي أشعر بها وأنا أعمل عليه، الفرق الأساسي بينه وبين الروائي أنّ كلّ شيء في الروائي مكتوب مسبقاً. ربما يطرأ بعض التغييرات، لكنْ في إطار محدود جداً. أما الوثائقي، فهو حقلٌ من الاكتشاف. أثناء التصوير، تحدث أشياء كثيرة لم نكن نتوقّعها، وهذا يجعله عفوياً وجميلاً. الفيلم الوثائقي وإنجازه يوفّران حالة متواصلة من التقدّم إلى الأمام. هذا أكثر جانب فيه يولّد المتعة.

في البداية، كنت أودّ مقاربة الفيلم بالتسلسل الكرونولوجي، لكن من وجهة نظر أجيال عديدة من الكتّاب. إلا أنّي لاحقاً، عندما أجريت لقاءات مع الشخصيات كلّها، لاحظتُ أشياء أخرى، فغيّرتُ مقاربتي. صحيحٌ أنّ السياق ينطوي على تفاصيل صينية كثيرة وفريدة جداً، خاصة ببلدنا وتاريخنا وناسنا. لكنْ، سرعان ما لاحظتُ أنّ هذا كلّه مادة شديدة الكونية. البشر جميعهم يجدون أنفسهم في ما يظهره الفيلم: الحبّ والمرض والطعام، إلخ. هذا مَدَّني بمقدار من الحرية لإعادة خلق الفيلم من جديد.

هل كان صعباً أنْ تقنع الشخصيات بالظهور في الفيلم والإدلاء بالشهادات، خصوصاً أنْ كلامها يتناول أحياناً القمع؟
لم يكن سهلاً. لهذا السبب وقع اختياري على كتّاب. هم كانوا مدخلي إلى تاريخ الصين، وإلى جمع الذاكرة الجمعية لأجيال عديدة من الصينيين. اخترتُ الكتّاب فقط لاعتقادي أنّهم أناس يعبّرون عمّا يجري في المجتمع بتفاصيله الدقيقة. الكتّاب الذين انتقيتهم هم مشهورون في الصين، اشتغلوا طول حياتهم على رفع مستوى الجرأة في تناول المواضيع الاجتماعية، وهي مواضيع تُعتَبر من المحرّمات في الصين، ولا أحد يتكلّم عنها. ما دفعني إلى اختيارهم هو أنّهم من الحكواتيين البارعين جداً. عادةً، هم يجلسون خلف المكتب، ويضعون على الورق حكاياتهم. هنا، طلبتُ إليهم أنْ يقولوها شفهياً قبالة الكاميرا. وددتُ أنْ ينقلوا التاريخ الشفهي للصين بطريقةٍ مقنعة وطبيعية. كان في نيتي أنْ ألتقط قوّة التعبير هذه، واعتمدتُ عليهم لبلوغ هذا الهدف.

كما رأيتَ، الفيلم ليس عنهم، بل عن تجربتهم الخاصة وتاريخهم الشخصي. أنا مولود في السبعينيات، والثورة الثقافية انتهت عام 1976. هذا يعني أنْ فهمي لتلك الثورة يعتمد على ذكرياتي الطفولية.

في أفلامك، تتناول كثيراً التعايش بين التقليد والحداثة والصراع الحاصل بينهما. لكن، أحياناً، تصعب معرفة ما الذي يجب أنْ نحاول الحفاظ عليه من القديم، وما يجب أنْ نتخلّى عنه. ألديك حلٌّ لهذا اللبس؟
للردّ على هذا السؤال، عليّ أولاً أنْ أفصل ما بين أمرين، كي لا أقع في اللبس. من ناحية، هناك التقاليد، ومن ناحية أخرى هناك الذاكرة. يجب الفصل بينهما بشكل واضح. بالنسبة إليّ، لا شكّ في أنّه يجب صون الذاكرة وتسجيلها بكلّيتها. من دون أن نعلم ماذا حدث في تاريخنا، لا توجد أي إمكانية لمعرفة ماذا يمكن أن نفعل في المستقبل، وكيف نتعاطى مع مشكلاتنا المزمنة. المهمة الموكلة إليَّ كسينمائي هي أنْ أحافظ على هذه الذاكرة، وأمنعها من الاندثار. مسؤوليتي أنْ أجعل من ذاكرة البشر مادة للاشتغال، تجلعني أرى أين يُمكن أنْ أذهب بها. لولا هذا، لا نعلم ماذا كان حلّ بتاريخنا وبلدنا. أما الأشياء التي يجب أن نمنعها من التكرار، سواء وقعت في خانة التقاليد أم لم تقع، فهي استخدام العنف ضد البشر، وسلبهم حقوقهم المدنيّة. هذه من الأشياء التي يجب ألّا تتكرّر مهما تكن الظروف.

ولكن، هل تشعر بأنّ عليك أنْ تخبر هذه القصص للعالم، أم أننا أمام محاولة للعودة إلى الذات من خلالها؟
عندما أنجز فيلماً، لا يكون في بالي مُشاهِد معيّن. هذا الفيلم يتوجّه إلى أيّ شخص يهتم بما أطرحه. الفيلم ينطوي على تفاصيل تاريخية كثيرة، منها النظام الغذائي للناس في تلك الفترة. هذه تفاصيل صينية جداً ربما لا يتفهّمها الآخرون. لكنْ، كما قلت سابقاً، هناك تفاصيل أخرى تنتمي إلى التجربة البشرية الجمعاء. هذا فيلم يمكن اعتباره هديّة للأجيال الصاعدة، التي لا تعرف ما عاناه الناس الذين أتوا قبلها. في الوقت نفسه، هدية للناس الذين عاشوا هذه التجارب، ولم يُرَد لهم الاعتبار كما يجب. المشكلة مع الذين عاصروا هذه الفترة هي أنّهم أصحاب ذاكرة انتقائية، أي أنّهم يختارون ما يريدون تذكّره. هؤلاء عانوا التروما، لذلك لا يمكن التحدّث معهم عن أمور معينة. لا يجدي نفعاً تناول كلّ ما عاشوه، فهناك مواضيع حسّاسة لا يودّون العودة إليها.

بالإضافة إلى الهديتين اللتين ذكرتهما، هذا الفيلم يمكنه أن يكون أيضاً هدية لكلّ شخص يهتم بالفيلم الوثائقي، ولا ضرورة البتّة أنْ يكون قريباً من الموضوع، أو مطّلعاً على التاريخ الصيني. هذا كلّه لن يمنع أي مُشاهد من أنْ يشعر نفسه معنياً بكلّ ما يمر على الشاشة من حكايات فردية، ضمن سياق تاريخي.

هل تعتقد أنّ هذه الشهادات تساعد الآخرين في الصين ليدلوا بدلائهم؟
يصعب جداً إيجاد أناسٍ يفتحون قلوبهم كما فعل هؤلاء معي. هؤلاء تعرّوا بالكامل أمامي، نفسياً ومعنوياً. هذا كلّه حصل بالاتكاء على الحظ، الذي حالفني فعلاً. هناك طريقة مناسبة للاقتراب من الناس. في حالتي أنا، كانوا كتّاباً، وكنتُ أعي تماماً مدى نزاهتهم، ومدى قدرتهم على الانفتاح. سبق أنْ استعنتُ بشخصيات مماثلة في أفلام سابقة لي. صوّرتُ عمالاً في مصنع، رووا لي تجربة التروما التي مرّوا بها، والتحدّي الذي عاشوه جرّاء ذلك. لذا، جوابي هو: "نعم، هذا ممكن"، علماً أنْ إيجاد مثل هؤلاء الأشخاص لم يكن أمراً سهلاً ومُتاحاً، لكنّي وجدتهم في النهاية. هم ليسوا من الأغلبية في الصين، لكنْ يمكن العثور عليهم.

المساهمون